المنشورات

المراثي

من رثى نفسه ووصف قبره وما يكتب على القبر
لابن خذاق:
قال ابن قتيبة بلغني أنّ أوّل من بكى على نفسه وذكر الموت في شعره: يزيد بن خذّاق فقال:
هل للفتى من بنات الدهر من راقي ... أم هل له من حمام الموت من واقي
قد رجّلوني وما بالشّعر من شعث ... وألبسوني ثيابا غير أخلاق «1»
وطيّبوني وقالوا أيّما رجل! * وأدرجوني كأني طيّ مخراق «2»
وأرسلوا فتية من خيرهم حسبا ... ليسندوا في ضريح القبر أطباقي «3»
وقسّموا المال وارفضّت عوائدهم ... وقال قائلهم مات ابن خذّاق!
هوّن عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي
وقال ابن ذؤيب الهذلي يصفه حفرته:
مطأطأة لم ينبطوها وإنما ... ليرضى بها فرّاطها، أمّ واحد «4»
قضوا ما قضوا من رمّها ثم أقبلوا ... إلي بطاء المشي غبر السّواعد
فكنت ذنوب البئر لمّا تلحّبت ... وأدرجت أكفاني ووسّدت ساعدي
وقال عروة بن حزام لما نزل به الموت:
من كان من أخواتي باكيا أبدا ... فاليوم، إني أراني اليوم مقبوضا
يسمعنيه فإني غير سامعه ... إذا علوت رقاب القوم معروضا
وقال الطرماح بن حكيم:
فيا ربّ لا تجعل وفاتي إن أتت ... على شرجع يعلى بدكن المطارف
ولكن شهيدا ثاويا في عصابة ... يصابون في فجّ من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ... وصاروا إلى موعود ما في الصحائف
فأقتل قعصا ثم يرمى بأعظمي ... مفرّقة أوصالها في التّنائف
ويصبح لحمي بطن طير مقيله ... بجوّ السماء في نسور عواكف
وقال مالك بن الرّيب: يرثي نفسه ويصف قبره- وكان خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان. لما ولي خراسان، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه، فإذا بأفعى في داخلها، فلسعته، فلما أحس بالموت استلقى على قفاه. ثم أنشأ يقول
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي ... بذي الطّبسين فالتفتّ ورائيا «1»
فما راعني إلا سوابق عبرة ... تقنّعت منها أن ألام ردائيا
ألم ترني بعت الضّلالة بالهدى ... وأصبحت في جيش ابن عفّان غازيا
فلله درّي حين أترك طائعا ... بنيّ بأعلى الرّقمتين وماليا
ودرّ الكبيرين اللذين كلاهما ... عليّ شفيق ناصح قد نهانيا
ودرّ الظّباء السّانحات عشيّة ... يخبّرن أني هالك من أماميا
تقول ابنتي لمّا رأت وشك رحلتي ... سفارك هذا تاركي لا أباليا
ألا ليت شعري هل بكت أمّ مالك ... كما كنت لو عالوا نعيّك باكيا
إذا متّ فاعتادي القبور وسلّمي ... عليهنّ أسقين السّحاب الغواديا
تري جدثا قد جرّت الريح فوقه ... ترابا كسحق المرنبانىّ هابيا «2»
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فاحفرا ... برابية إني مقيم لياليا
وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي ... وردّا على عينيّ فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما ... من الأرض ذات العرض أن توسعاليا
خذاني فجرّاني ببردي إليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
تفقّدت من يبكي عليّ فلم أجد ... سوى السّيف والرّمح الرديني باكيا
وأدهم غربيب يجرّ لجامه ... إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا «3»
وبالرّمل لو يعلمن علمي نسوة ... بكين وفدّين الطبيب المداويا
عجوزي وأختاي اللّتان أصيبتا ... بموتي وبنت لي تهيج البواكيا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
تحمّل أصحابي عشاء وغادروا ... أخا ثقة في عرصة الدّار ثاويا «4»
يقولون لا تبعدوهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
لأفنون في بكاء نفسه:
وقال رجل من بني تغلب يقال له أفنون، وهو لقبه، واسمه ضريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن مالك بن حبيب بن عمر بن غنم بن تغلب، ولقي كاهنا في الجاهلية، فقال له: إنك تموت بمكان يقال له الاهة. فمكث ما شاء الله، ثم سافر في ركب من قومه إلى الشام فأتوها، ثم انصرفوا فضلوا الطريق، فقالوا لرجل: كيف نأخذ؟ فقال: سيروا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا ظهر لكم الطريق ورأيتم الإهة- وإلاهة قارة بالسماوة- فلما أتوها نزل أصحابه وأبى أن ينزل؛ فبينما ناقته ترتعي وهو راكبها إذ أخذت بمشفر ناقته حية، فاحتكت الناقة بمشفرها فلدغت ساقه، فقال لأخيه وكان معه، واسمه معاوية: احفر لي فإني ميت ثم تغنّى قبل أن يموت يبكي نفسه:
لست على شيء، فروحن معاويا ... ولا المشفقات إذ تبعن الحوازيا «1»
ولا خير فيما كذّب المرء نفسه ... وتقواله للشيء يا ليت ذا ليا
وإن أعجبتك الدّهر حال من امريء ... فدعه وواكل حاله واللياليا
يرحن عليه أو يغيّرن ما به ... وإن لم يكن في خوفه العيث وانيا
فتطأ معرضا إنّ الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقي بنفسك باقيا
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
كفى حزنا أن يرحل الرّكب غدوة ... وأنزل في أعلى إلاهة ثاويا
قال: فمات فدفنوه بها.
وقال هدبة العذري لما أيقن بالموت:
ألا علّلاني قبل نوح النّوائح ... وقبل اطلاع النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
إذا راح أصحابي بفيض دموعهم ... وغودرت في لحد عليّ صفائحي
يقولون هل أصلحتم لأخيكم ... وما الرّمس في الأرض القواء بصالح «1»
وقال محمد بن بشير:
ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه
والويل لي من كلّ يوم أتى ... يذكرني الموت وأنساه
كأنه قد قيل في مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه:
صار البشيريّ إلى ربّه ... يرحمنا الله وإياه
لأبي العتاهية في أبيات أوصى أن تكتب على قبره:
ولما حضرت أبا العتاهية الوفاة، واسمه إسماعيل بن القاسم، أوصى بأن يكتب على قبره هذه الأبيات الأربعة:
أذن حيّ تسمّعي ... اسمعي ثم عي وعي
أنا رهن بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
عشت تسعين حجّة ... ثم وافيت مضجعي
ليس شي سوى التّقي ... فخذي منه أودعي
وعارضه بعض الشعراء في هذه الأبيات، وأوصى بأن يكتب على قبره أيضا فكتبت وهي:
أصبح القبر مضجعي ... ومحلّي وموضعي
صرعتني الحتوف في ال ... تّرب يا ذلّ مصرعي «2»
أين إخواني الذي ... ن إليهم تطلّعي
متّ وحدي فلم يمت ... واحد منهم معي
أبيات قيل إنها لأبي نواس:
وجد على قبر جارية إلى جنب قبر أبي نواس ثلاثة أبيات؛ فقيل إنها من قول أبي نواس، وهي:
أقول لقبر زرته متلثّما ... سقى الله برد العفو صاحبة القبر «1»
لقد غيّبوا تحت الثرى قمر الدّجى ... وشمس الضحى بين الصّفائح والعفر «2»
عجبت لعين بعدها ملّت البكا ... وقلب عليها يرتجي راحة الصبر
لابن نواس:
الرياشي قال: وجدت تحت الفراش الذي مات عليه أبو نواس رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات:
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم أنّي مسلم
أبيات على قبر الإيادي:
الخشني قال: أخبرنا بعض أصحابنا ممن كان يغشى مجلس الرياشي قال: رأيت على قبر أبي هاشم الإيادي بواسط:
الموت أخرجني من دار مملكتي ... والموت أضرعني من بعد تشريفي
لله عبد رأى قبري فأعبره ... وخاف من دهره ريب التّصاريف
الأصمعي قال: أخذ بيدي يحيى بن خالد بن برمك فأوقفني على قبر بالحيرة، فإذا عليه مكتوب:
إن بني المنذر لمّا انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب
تنّفح بالمسك محاريبهم ... وعنبر يقطبة قاطب «1»
والخبز واللحم لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب «2»
والقطن والكتّان أثوابهم ... لم يجلب الصّوف لهم جالب
فأصبحوا قوتا لدود الثّرى ... والدهر لا يقي له صاحب
كأنما حياتهم لعبة ... سرى إلى بين بها راكب
وقال أبو حاتم: بين: موضع من الحيرة على ثلاث ليال.
الشيباني قال: وجد مكتوبا على بعض القبور:
ملّ الأحبّة زورتي فجفيت ... وسكنت في دار البلى فنسيت
الحيّ يكذب لا صديق لّميت ... لو كان يصدق مات حين يموت
يا مؤنسا سكن الثرى وبقيت ... لو كنت أصدق إذ بليت بليت
أو كان يعمى للبكاء مفجّع ... من طول ما أبكى عليك عميت «3»
وقال محمد بن عبد الله:
وعما قليل أن ترى باكيا لنا ... سيضحك من يبكي ويعرض عن ذكري
ترى صاحبي يبكي قليلا لفرقتي ... ويضحك من طول اللّيالي على قبري
ويحدث إخوانا وينسى مودّتي ... وتشغله الأحباب عني وعن ذكري











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید