المنشورات

رثاء الولد

فمن قولي في ولدي:
بليت عظامي والأسى يتجدّد ... والصبر ينفد والبكا لا ينفد
يا غائبا لا يرتجى لإيابه ... ولقائه دون القيامة موعد
ما كان أحسن ملحدا ضمّنته ... لو كان ضمّ أباك ذاك الملحد
باليأس أسلو عنك لا بتجلّدي ... هيهات أين من الحزين تجلد
ومن قولي فيه أيضا:
واكبدا قد قطّعت كبدي ... وحرّقتها لواعج الكمد
ما مات حيّ لّمت أسفا ... أعذر من والد على ولد
يا رحمة الله جاوري جدثا ... دفنت فيه حشاشتي بيدي
ونوّرى ظلمة القبور على ... من لم يصل ظلمه إلى أحد
من كان خلوا من كلّ بائقة ... وطيّب الرّوح طاهر الجسد
يا موت، يحيى لقد ذهبت به ... ليس بزمّيلة ولا نكد «1»
يا موته لو أقلت عثرته ... يا يومه لو تركته لغد
يا موت لو لم تكن تعاجله ... لكان لا شكّ بيضة البلد «2»
أو كنت راخيت في العنان له ... حاز العلا واحتوى على الأمد «3»
أيّ حسام سلبت رونقه ... وأيّ روح سللت من جسد
وأيّ ساق قطعت من قدم ... وأيّ كفّ ازلت من عضد
يا قمرا أجحف الخسوف به ... قبل بلوغ السواء في العدد»
أيّ حشى لم يذب له أسفا ... وأيّ عين عليه لم تجد «5»
لا صبر لي بعده ولا جلد ... فجعت بالصبر فيه والجلد
لو لم أمت عند موته كمدا ... لحقّ لي أن أموت من كمدي
يا لوعة لا يزال لاعجها ... يقدح نار الأسى على كبدي «6»
وقلت فيه أيضا:
قصد المنون له فمات فقيدا ... ومضى على صرف الخطوب حميدا
بأبي وأمي هالكا أفردته ... قد كان في كلّ العلوم فريدا
سود المقابر أصبحت بيضا به ... وغدت له بيض الضمائر سودا
لم نرزه لمّا رزينا وحده ... وإن استقلّ به المنون وحيدا «1»
لكن رزينا القاسم بن محمد ... في فضله والأسود بن يزيدا
وابن المبارك في الرّقائق مخبرا ... وابن المسيّب في الحديث سعيدا
والأخفشين فصاحة وبلاغة ... والأعشيين رواية ونشيدا
كان الوصيّ إذا أردت وصيّة ... والمستفاد إذا طلبت مفيدا
ولّى حفيظا في الأذمّة حافظا ... ومضى ودودا في الورى مودودا «2»
ما كان مثلي في الرّزيّة والد ... ظفرت يداه بمثله مولودا
حتى إذا بذّ السّوابق في العلا ... والعلم ضمّن شلوه ملحودا
يا من يفنّد في البكاء مولّها ... ما كان يسمع في البكا تفنيدا «3»
تأبى القلوب المستكينة للأسى ... من أن تكون حجارة وحديدا
إنّ الذي باد السّرور بموته ... ما كان حزني بعده ليبيدا
ألآن لما أن حويت مآثرا ... أعيت عدوّا في الورى وحسودا
ورأيت فيك من الصّلاح شمائلا ... ومن السّماح دلائلا وشهودا
أبكي عليك إذا الحمامة طرّبت ... وجه الصّباح وغرّدت تغريدا
لولا الحياء وأن أزنّ ببدعة ... مما يعدّده الورى تعديدا «4»
لجعلت يومك في المنائح مأتما ... وجعلت يومك في الموالد عيدا
وقلت فيه أيضا:
لا بيت يسكن إلّا فارق السّكنا ... ولا امتلا فرحا إلّا امتلا حزنا
لهفي على ميّت مات السرور به ... لو كان حيّا لأحيا الدين والسّننا
واها عليك أبا بكر مردّدة ... لو سكّنت ولها أو فتّرت شجنا
إذا ذكرتك يوما قلت وا حزنا ... وما يردّ عليك القول وا حزنا
يا سيّدي ومراح الروح في جسدي ... هلّا دنا الموت منّي حين منك دنا!
حتى يعود بنا في قعر مظلمة ... لحد ويلبسنا في واحد كفنا
يا أطيب الناس روحا ضمّه بدن ... أستودع الله ذاك الروح والبدنا
لو كنت أعطى به الدّنيا معاوضة ... منه لما كانت الدنيا له ثمنا
وقال أبو ذؤيب الهذلي، وكان له أولاد سبعة فماتوا كلهم إلا طفلا، فقال يرثيهم:
أمن المنون وريبه تتوجّع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع «1»
قالت أمامة ما لجسمك شاحبا ... منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعا ... إلّا أقضّ عليك ذاك المضجع «2»
فأجبتها أن ما لجسمي إنه ... أودى بنيّ من البلاد فودّعوا
أودى بنيّ وأعقبوني حسرة ... بعد الرّقاد وعبرة ما تقلع
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع «3»
فبقيت بعدهم بعيش ناصب ... وإخال أني لاحق مستتبع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنيّة أقبلت لا تدفع
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
فالعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عورا تدمع «4»
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشرّق كلّ يوم تقرع «5»
وتجلّدي للشّامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وقال في الطفل الذي بقي له:
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وقال الأصمعي: هذا أبدع بيت قالته العرب.
وقال أعرابيّ يرثي بنيه:
أسكّان بطن الأرض لو يقبل الفدا ... فدينا وأعطينا بكم ساكني الظّهر «1»
فياليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيما إلى الحشر
وقاسمني دهري بنيّ بشطره ... فلما تقضّى شطره مال في شطري
فصاروا ديونا للمنايا ولم يكن ... عليهم لها دين قضوه على عسر
كأنهم لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر إلى قبر
وقد كنت حيّ الخوف قبل وفاتهم ... فلمّا توفّوا مات خوفي من الدهر
فلله ما أعطى ولله ما حوى ... وليس لأيّام الرّزيّة كالصّبر
وقيل لأعرابية مات ابنها. ما أحسن عزاءك؟ قالت: إن فقدى إياه آمنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هونت عليّ المصائب بعده! ثم أنشأت تقول:
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
كنت السّواد لناظري ... فعمي عليك النّاظر
ليت المنازل والدّيا ... رحفائر ومقابر
إني وغيري لا محا ... لة حيث صرت لصائر
أخذ الحسن بن هانيء معنى هذا البيت الأول، فقال في الأمين:
طوى الموت ما بيني وبين محمّد ... وليس لما تطوي المنيّة ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شي عليه أحاذر
لئن عمرت دور بمن لا أحبّه ... لقد عمرت ممن أحبّ المقابر
وقال عبد الله بن الأهتم يرثي ابنا له:
دعوتك يا بنيّ فلم تجبني ... فردّت دعوتي يأسا عليّا
بموتك ماتت الّلذّات مني ... وكانت حيّة ما دمت حيّا
فيا أسفا عليك وطول شوقي ... إليك لو انّ ذلك ردّ شيّا










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید