المنشورات

مفاخرة ربيعة

قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه؛ خبّروني عن حيّ من أحياء العرب فيهم أشد الناس، وأسخى الناس، وأخطب الناس، وأطوع الناس في قومه، وأحلم الناس، وأحضرهم جوابا. قالوا: يا أمير المؤمنين، ما نعرف هذه القبيلة، ولكن ينبغي لها أن تكون في قريش. قال: لا. قالوا: ففي حمير وملوكها. قال: لا. قالوا: ففي مضر.
قال: لا. قال مصقلة بن رقيّة العبدي: فهي إذا في ربيعة ونحن هم. قال: نعم. قال جلساؤه: ما نعرف هذا في عبد القيس إلا أن تخبرنا به يا أمير المؤمنين. قال: نعم؛ أما أشد الناس فحكيم بن جبل، كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقطعت ساقه فضمّها إليه حتى مر به الذي قطعها فرماه بها فجدله عن دابته، ثم جثا إليه فقتله واتكأ عليه، فمر به الناس فقالوا له: يا حكيم، من قطع ساقك؟ قال: وسادي هذا. وأنشأ يقول:
يا ساق لا تراعي إن معي ذراعي أحمي بها كراعي «1» وأما أسخى الناس، فعبد الله بن سوّار، استعمله معاوية على السند، فسار إليها في أربعة آلاف من الجند، وكانت توقد معه نار حيثما سار، فيطعم الناس؛ فبينما هو ذات يوم إذ أبصر نارا، فقال: ما هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، اعتل بعض أصحابنا فاشتهى خبيصا فعملنا له. فأمر خبازه أن لا يطعم الناس إلا الخبيص، حتى صاحوا وقالوا: أصلح الله الأمير، ردّنا إلى الخبز واللحم! فسمي مطعم الخبيص.
وأما أطوع الناس في قومه، فالجارود بشر بن العلاء؛ إنه لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وارتدت العرب، خطب قومه فقال: أيها الناس، إن كان محمد قد مات فإن الله حيّ لا يموت؛ فاستمسكوا بدينكم، فمن ذهب له في هذه الرّدّة دينار أو درهم أو بعير أو شاة فله عليّ مثلاه! فما خالفه منهم رجل.
أما أحضر الناس جوابا فصعصعة بن صوحان، دخل على معاوية في وفد أهل العراق، فقال معاوية: مرحبا بكم يأهل العراق! قدمتم أرض الله المقدسة؛ منها المنشر وإليها المحشر، قدمتم على خير أمير، يبرّ كبيركم ويرحم صغيركم؛ ولو أن الناس كلها ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء! فأشار الناس إلى صعصعة، فقام فحمد الله وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أما قولك يا معاوية إنا قدمنا الأرض المقدّسة: فلعمري ما الأرض تقدس الناس، ولا يقدّس الناس إلا أعمالهم؛ وأما قولك منها المنشر وإليها لمحشر، فلعمري ما ينفع قربها ولا يضر بعدها مؤمنا؛ وأما قولك لو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء، فقد ولدهم خير من أبي سفيان: آدم صلوات الله عليه؛ فمنهم الحليم والسفيه، والجاهل والعالم.
وأما أحلم الناس [فالأشجّ العبديّ] ، فإن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم بصدقاتهم وفيهم الأشج، ففرّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو أول عطاء فرقه في أصحابه؛ ثم قال: يا أشج، ادن مني. فدنا منه، فقال: إن فيك خلتين يحبهما الله: الأناة، والحلم! وكفى برسول الله صلّى الله عليه وسلم شاهدا؛ ويقال: إنّ الأشج لم يغضب قط.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید