المنشورات

المتعصبين للعرب

قال أصحاب العصبية من العرب: لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان كما في الأثر: إن قوما يقادون إلى حظوظهم بالسواجير. «1» كما قال: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل.
على أنّا تعرّضنا للقتل فيهم: فمن أعظم عليك نعمة ممن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم، وفرض علينا جهادكم ورغبنا في مكاتبتكم.
وقدّم نافع بن جبير بن مطعم رجلا من أهل الموالي يصلي به، فقالوا: له في ذلك؛ فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه.
وكان نافع بن جبير هذا إذا مرّت به جنازة قال: من هذا؟ فإذا قالوا قرشي؛ قال: واقوماه! وإذا قالوا: عربي؛ قال: وابلدتاه! وإذا قالوا: مولى؛ قال: هو مال الله، يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.
قال: وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب أو مولى.
وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يتقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاما قاموا على رؤسهم، وإن أطمعوا المولى لسنّه وفضله وعلمه أجلسوه في طرف الخوان؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإن كان الذي يحضر غريرا؛ وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها إلى مواليها؛ فإن رضي زوّج وإلا ردّ، فإن زوّج الأب والأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها كان سفاح غير نكاح.
وقال زياد: دعا معاوية الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب فقال إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت، وأراها قد طعنت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان؛ فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق؛ فما ترون؟
فقال الأحنف: أرى أن نفسي لا تطيب؛ أخي لأمي وخالي ومولاي، وقد شاركناهم وشاركونا في النسب. فظننت أني قد قتلت عنهم؛ وأطرق.
فقال سمرة بن جندب: اجعلها إلىّ أيها الأمير، فأنا أتولى ذلك منهم وأبلغ منه.
فقال: قوموا حتى أنظر في هذا الأمر.
قال الأحنف: فقمنا عنه وأنا خائف، وأتيت أهلي حزينا؛ فلما كان بالغداة أرسل إليّ، فعلمت أنه أخذ برأيي وترك رأي سمرة.
وروي أن عامر بن عبد القيس في نسكه وزهده وتقشفه وإخباته وعبادته كلّمه حمران مولى عثمان بن عفان عند عبد الله بن عامر صاحب العراق في تشنيع عامر على عثمان وطعنه عليه، فأنكر ذلك، فقال له حمران: لا كثّر الله فينا مثلك! فقال له عامر: بل كثّر الله فينا مثلك! فقيل له: أيدعو وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحركون ثيابنا. فاستوى ابن عامر جالسا، وكان متكئا، فقال: ما كنت أظنك تعرف هذا الباب، لفضلك وزهادتك. فقال: ليس كل ما ظننت أني لا أعرفه، لا أعرفه.
وقالوا: إن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد لما وجّه أخاه عبد العزيز إلى قتال الأزارقة، هزموه وقتلوا صاحبه مقاتل بن مسمع، وسبوا امرأته أم حفص بنت المنذر ابن الجارود العبدي، فأقاموها في السوق حاسرة بادية المحاسن، وغالوا فيها وكانت من أكمل الناس كمالا وحسنا، فتزايدت فيها العرب والموالي وكانت العرب تزيد فيها على العصبية، والموالي تزيد فيها على الولاء، حتى بلّغتها العرب عشرين ألفا، ثم تزايدوا فيها حتى بلّغوها تسعين ألف، فأقبل رجل من الخوارج من عبد القيس من خلفها بالسيف فضرب عنقها، فأخذوه ورفعوه إلى قطري بن الفجاءة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا استهلك تسعين ألفا من بيت المال وقتل أمة من إماء المؤمنين.
فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت هؤلاء الإسماعيلية والإسحاقية قد تنازعوا عليها حتى ارتفعت الأصوات واحمرت الحدق، فلم يبق إلا الخبط بالسيوف، فرأيت أن تسعين ألفا في جنب ما خشيت من الفتنة بين المسلمين هينة. فقال قطري:
خلّوا عنه، عين من عيون الله أصابتها. قالوا: فأقد منه. قال: لا أقيد من وزعه «1» الله. ثم قدم هذا العبدي بعد ذلك البصرة، فإذا النعمان بن الجارود يستجديه بذلك السبب، فوصله وأحسن إليه.
قال: أبو عبيدة: مر عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النحو، فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وخاقان ومؤمل بن خاقان.
الأصمعي قال: قدم أبو مهدية الأعرابي من البادية فقال له رجل: أبا مهدية أتتوضئون بالبادية؟ قال: والله يا ابن أخي لقد كنا نتوضأ فتكفينا التوضئة الواحدة ثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه الحمراء- يعني الموالي- فجعلت تليق استاهها بالماء كما تلاق»
الدواة.
ونظر رجل من الأعراب إلى رجل من الموالي يستنجي بماء كثير، فقال له: إلى كم تغسلها ويلك! أتريد أن تشرب بها سويقا! وكان عقيل بن علقمة المرّي أشدّ الناس حميّة في العرب، وكان ساكنا في البادية، وكان يصهر إليه الخلفاء؛ وقال لعبد الملك بن مروان وخطب إليه ابنته الجرباء: جنّبني هجناء ولدك. وهو القائل:
كنّا بنو غيظ رجالا فأصبحت ... بنو مالك غيظا وصرنا لمالك
لحى الله دهرا ذعذع المال كلّه ... وسوّد أشباه الإماء العوارك «2»
وقال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال:
فما هما؟ قلت: موليان.
قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وسعيد ابن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت موالي.
فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت من الموالي.
فاربدّ وجهه، ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاوس، وابنه وهمام بن منبه.
قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي.
فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا، [ثم] قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت:
عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى.
فازداد وجهه تربّدا واسودّ اسوادادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟
قلت: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى.
فازداد تغيّظا وحنقا؛ ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران.
قال: فما كان؟ قلت: مولى.
قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فو الله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عيينة، وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت:
إبراهيم، والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه.
وذكر عمرو بن بحر الجاحظ، في كتاب الموالي والعرب: أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود، ولقي ما لقي من قراء أهل العراق وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه، الفقهاء والمقاتلة والموالي من أهل البصرة؛ فلما علم أنهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، أحب أن يسقط ديوانهم ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا ولا يتعاقدوا، فأقبل على الموالي وقال: أنتم علوج «1» وعجم، وقراكم أولى بكم.
ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب وصيّرهم كيف شاء، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجّهه إليها؛ وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل ابن لجيم، يقال له خراش بن جابر؛ وقال شاعرهم:
وأنت من نقش العجليّ راحته ... وفرّ شيخك حتى عاذ بالحكم
يريد: الحكم بن أيوب الثقفي عامل الحجاج على البصرة.
وقال آخر، وهو يعني أهل الكوفة، وقد كان قاضيهم رجلا من الموالي يقال له:
نوح بن درّاج:
إنّ القيامة فيما أحسب اقتربت ... إذ كان قاضيكم نوح بن درّاج
لو كان حيا له الحجّاج ما بقيت ... صحيحة كفّه من نقش حجّاج
وقال آخر:
جارية لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجاج من كنّ وظلّ «1»
لو كان عمرو شاهدا وابن جبل ... ما نقشت كفاك من غير جدل
ويروى أن أعرابيا من بني العنبر دخل على سوّار القاضي فقال: إن أبي مات وتركني وأخا لي- وخط خطّين- ثم قال: وهجينا- ثم خط خطا ناحية- فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: هاهنا وارث غيركم؟ قال: لا. قال: فالمال بينكم أثلاثا. قال:
ما أحسبك فهمت عني، إنه تركني وأخي وهجينا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل. فغضب الأعرابي ثم أقبل على سوّار فقال: ما علمت والله، إنك قليل الخالات بالدهناء. «2» قال سوار: لا يضرّني ذلك عند الله تعالى شيئا.
تم الجزء الثالث من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه؛ ويليه- إن شاء الله تعالى الجزء الرابع. وأوله: كتاب العسجدة: في كلام الأعراب.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید