المنشورات

قول الأعراب في الدعاء

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما قوم أشبه بالسلف من الأعراب، لولا جفا فيهم.
وقال غيلان: إذا أردت أن تسمع الدعاء فاسمع دعاء الأعراب.
قال أبو حاتم: أملى علينا أعرابي يقال له مرثد: اللهم اغفر لي والجلد بارد، والنفس رطبة، واللسان منطلق، والصحف منشورة، والأقلام جارية، والتوبة مقبولة، والأنفس مريحة، والتضرع مرجوّ، قبل أزّ «1» العروق، وحشك «2» النفس، وعلز «3» الصدر، وتزيّل الأوصال، ونصول الشعر، وتحيّف «4» التراب؛ وقبل أن لا أقدر على استغفارك حتى يفنى الأجل، وينقطع العمل. أعنّي على الموت وكربته، وعلى القبر وغمّته، وعلى الميزان وخفّته، وعلى الصراط وزلّته، وعلى يوم القيامة وروعته؛ اغفر لي مغفرة واسعة لا تغادر ذنبا، ولا تدع كربا؛ اغفر لي جميع ما افترضت عليّ ولم أؤدّه إليك؛ اغفر لي جميع ما تبت إليك منه ثم عدت فيه يا رب تظاهرت عليّ منك النعم، وتداركت عندك مني الذنوب؛ فلك الحمد على النعم التي تظاهرت، وأستغفرك الذنوب التي تداركت. أمسيت عن عذابي غنيا، وأصبحت إلى رحمتك فقيرا؛ اللهم إني أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل، اللهم أجعل خير عملي ما وليّ أجلي؛ اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتهم شكروا، وإذا ابتليتهم صبروا، وإذا أذكرتهم ذكروا، واجعل لي قلبا توّابا أوّابا، لا فاجرا ولا مرتابا. اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا، وإذا أساءوا استغفروا، اللهم لا تحقق عليّ العذاب، ولا تقطع بي الأسباب، واحفظني في كل ما تحيط به شفقتي، ويأتي من ورائه سبحتي «5» ، وتعجز عنه قوّتي، أدعوك دعاء ضعيف عمله، متظاهرة ذنوبه، ضنين على نفسه- دعاء من بدنه ضعيف، ومنّته عاجزة؛ قد انتهت عدّته، وخلقت جدته، وتم ظمؤه؛ لا تخيبني وأنا أرجوك، ولا تعذبني وأنا أدعوك، والحمد لله على طول النسيئة، وحسن التباعة، وتشنج العروق، وإساغة الريق، وتأخر الشدائد؛ والحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ والحمد لله الذي لا يودى قتيله، ولا يخيب سوله، ولا يردّ رسوله. اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك؛ وأعوذ بك أن أقول زورا، أو أغشى فجورا، أو أكون بك مغرورا؛ وأعوذ بك من شماتة الأعداء، وعضال «1» الداء، وخيبة الرجاء، وزوال النعمة، وفجاءة النقمة.
دعا أعرابي وهو يطوف بالكعبة فقال: إلهي، من أولى بالتقصير والزلل مني وأنت خلقتني، ومن أولى بالعفو منك عني وعلمك بي ماض، وقضاؤك بي محيط؛ أطعتك بقوتك والمنة لك، وعصيتك بعلمك، فأسألك يا إلهي بوجوب رحمتك، وانقطاع حجّتي، وافتقاري إليك، وغناك عني- أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني. فتجاوز عن الذنوب التي كتبت عليّ، اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك: الشرك بك؛ فاغفر لي ما بين ذلك؛ اللهم إنك آنس المؤنسين لأوليائك، وأحضرهم للمتوكلين عليك. إلهي أنت شاهدهم وغائبهم، والمطلع على ضمائرهم، وسرّي لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف؛ إذا أوحشتني الغربة، آنسني ذكرك؛ وإذا أكبت عليّ الغموم، لجأت إلى الاستجارة بك؛ علما بأن أزمة «2» الأمور كلها بيدك، ومصدرها عن قضائك، فأقللني إليك مغفورا لي، معصوما بطاعتك باقي عمري، يا أرحم الراحمين.
الأصمعي قال: حججت فرأيت أعرابيا يطوف بالكعبة ويقول: يا خير موفود سعى إليه الوفد، قد ضعفت قوّتي، وذهبت منتي، وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها الأنهار ولا تحملها البحار؛ أستجير برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، ثم التفت فقال: أيها المشفقون، ارحموا من شملته الخطايا، وغمرته البلايا، ارحموا من قطع البلاد، وخلف ما ملك من التلاد «1» ؛ ارحموا من وبخته الذنوب، وظهرت منه العيوب؛ ارحموا أسير ضرّ، وطريد فقر. أسألكم بالذي أعملتكم الرغبة إليه، إلا ما سألتم الله أن يهب لي عظيم جرمي. ثم وضع في حلقة الباب خدّه وقال: ضرع خدّي لك، وذل مقامي بين يديك، ثم أنشأ يقول:
عظيم الذنب مكروب ... من الخيرات مسلوب
وقد أصبحت ذا فقر ... وما عندك مطلوب
العتبي قال: سمعت أعرابيا بعرفات عشية عرفة وهو يقول: اللهم إن هذه عشية من عشايا محبتك، وأحد أيام زلفتك، يأمل فيها من لجأ إليك من خلقك، أن لا يشرك بك شيئا بكل لسان فيها يدعى، ولكل خير فيها يرجى؛ أتتك العصاة من البلد السحيق، ودعتك العناة من شعب المضيق؛ رجاء ما لا خلف له من وعدك، ولا انقطاع له من جزيل عطائك؛ أبدت لك وجوهها المصونة، صابرة على وهج السمائم «2» ، وبرد الليالي، ترجو بذلك رضوانك؛ يا غفار، يا مستزادا من نعمه، ومستعاذا من نقمه، ارحم صوت حزين دعاك بزفير وشهيق. ثم بسط كلتا يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كنت بسطت يدي إليك راغبا، فطالما كفيتنيه؛ ساهيا بنعمتك التي تظاهرت عليّ عند الغفلة، فلا أيأس منها عند التوبة: ولا تقطع رجائي منك لما قدمت من افتراف، وهب لي الإصلاح في الولد، والأمن في البلد، والعافية في الجسد، إنك سميع مجيب.
ودعا أعرابي فقال: يا عماد من لا عماد له، ويا ركن من لا ركن له، ويا مجير الضعفاء، ويا منقذ الهلكى، ويا عظيم الرجاء، أنت الذي سبح لك سواد الليل وبياض النهار، وضوء القمر وشعاع الشمس، وحفيف الشجر ودوي الماء؛ يا محسن، يا مجمل، يا مفضل، لا أسألك الخير بخير هو عندك، ولكني أسألك برحمتك، فاجعل العافية لي شعارا ودثارا «1» ، وجنّة دون كل بلاء.
الأصمعي قال: خرجت أعرابية إلى منى فقطع بها الطريق، فقالت: يا رب، أخذت وأعطيت وأنعمت وسلبت، وكل ذلك منك عدل وفضل، والذي عظّم على الخلائق أمرك؛ لا بسطت لساني بمسألة أحد غيرك، ولا بذلت رغبتي إلا إليك يا قرة أعين السائلين، أغنني بجود منك أتبحبح في فراديس نعمته، وأتقلب في رواق نضرته، احملني من الرجلة «2» ، وأغنني من العيلة، وأسدل عليّ سترك الذي لا تخرقه الرماح، ولا تزيله الرياح، إنك سميع الدعاء.
قال: وسمعت أعرابيا في فلاة من الأرض وهو يقول في دعائه: اللهم إن استغاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع معرفتي بسعة رحمتك لعجز! إلهي كم تحببت إليّ بنعمتك وأنت غنيّ عني، وكم أتبغّض إليك بذنوبي وأنا فقير إليك! سبحان من إذا توعد عفا، وإذا وعد وفى.
قال: وسمعت أعرابيا يقول في دعائه: اللهم إن ذنوبي إليك لا تضرّك، وإن رحمتك إياي لا تنقصك؛ فاغفر لي مالا يضرك، وهب لي مالا ينقصك.
قال: وسمعت أعرابيا وهو يقول في دعائه: اللهم إني أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعم بترك النعم طمعا فيما وعدت، وخوفا مما أوعدت اللهم أعذني من سطواتك؛ وأجرني من نقماتك؛ سبقت لي ذنوب وأنت تغفر لمن يتوب؛ إليك بك أتوسل، ومنك إليك أفرّ.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: اللهم إن أقواما آمنوا بك بألسنتهم ليحقنوا دماءهم فأدركوا ما أمّلوا، وقد آمنا بك بقلوبنا لتجيرنا من عذابك فأدرك منا ما أمّلناه.
قال: ورأيت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة رافعا يديه إلى السماء وهو يقول رب،أتراك معذبنا وتوحيدك في قلوبنا، وما إخالك تفعل! ولئن فعلت لتجمعنّا مع قوم طالما أبغضناهم لك.
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول في صلاته: الحمد لله حمدا لا يبلى جديده ولا يحصى عديده، ولا يبلغ حدوده؛ اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت نعمره، واجعل ما بعده خيرا لنا منه؛ اللهم إن عينيّ قد اغرورقتا دموعا من خشيتك؛ فاغفر الزلة، وعد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك.
الأصمعي قال: وقف أعرابي في بعض المواسم فقال: اللهم إن لك عليّ حقوقا فتصدّق بها عليّ، وللناس قبلي تباعات فتحملها عني؛ وقد وجب لكل ضيف قرى «1» ، وأنا ضيفك الليلة، فاجعل قراي فيها الجنة.
قال: ورأيت أعرابيا أخذ بحلقتي باب الكعبة وهو يقول: سائلك عبد بابك ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تباعته فارض عنه، وإن لم ترض عنه فاعف عنه غير راض.
قال: ودعا أعرابي عند الكعبة، فقال: اللهم إنه لا شرف إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال؛ فأعطني ما أستعين به على شرف الدنيا والآخرة.
قال زيد بن عمر: سمعت طاوسا يقول: بينا أنا بمكة إذا دفعت إلى الحجاج بن يوسف، فثني لي وسادا فجلست، فبينا نحن نتحدث إذ سمعت صوت أعرابي في الوادي رافعا صوته بالتلبية، فقال الحجاج: عليّ بالملبّي. فأتي به، فقال: من الرجل؟
قال: من أفناء «2» الناس. قال: ليس عن هذا سألتك. قال: فعمّ سألتني؟ قال: من أي البلدان أنت؟ قال: من أهل اليمن. قال له الحجاج: فكيف خلفت محمد بن يوسف؟
يعني أخاه، وكان عامله على اليمن؛ قال: خلفته عظيما جسيما خرّاجا ولّاجا. قال:
ليس عن هذا سألتك. قال: فعمّ سألتني؟ قال: كيف خلّفت سيرته في الناس؟ قال:
خلفته ظلوما غشوما عاصيا للخالق مطيعا للمخلوق! فازورّ «1» من ذلك الحجاج، وقال: ما أقدمك على هذا وقد تعلم مكانته مني؟ فقال له الأعرابي أفتراه بمكانته منك أعزّ مني بمكانتي من الله تبارك وتعالى، وأنا وافد بيته، وقاضي دينه، ومصدّق نبيه صلّى الله عليه وسلم! قال: فوجم لها الحجاج ولم يجر له جوابا، حتى خرج الرجل بلا إذن. قال طاوس: فتبعته حتى أتى الملتزم فتعلق بأستار الكعبة، فقال: بك أعوذ، وإليك ألوذ، فاجعل لي في اللهف إلى جوارك والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين، وغنى عما في أيد المستأثرين؛ اللهم عد بفرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة.
قال طاوس: ثم اختفى في الناس فألفيته بعرفات قائما على قدميه وهو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجّي ونصبي وتعبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم مصيبة أعظم ممن ورد حوضك وانصرف محروما من وجه رحمتك.
الأصمعي قال: رأيت أعرابيا يطوف بالكعبة وهو يقول: إلهي عجّت «2» إليك الأصوات بضروب من اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك إلهي أن تذكرني على طول البلاء إذا نسيني أهل الدنيا. اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك، اللهم لا تعيني بطلب ما لم تقدّره لي، وما قدرته لي فيسّره لي.
قال: ودعت أعرابية لابن لها وجهته إلى حاجة، فقالت: كان الله صاحبك في أمرك، وخليفتك في أهلك، ووليّ نجح «3» طلبتك. امض مصاحبا مكلوءا، لا أشمت الله بك عدوّا، ولا أرى محبيك فيك سوءا.
قال: ومات ابن لأعرابي فقال: اللهم إني وهبت له ما قصر فيه من بري، فهب له ما قصّر فيه من طاعتك، فانك فإنك أجود وأكرم.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید