المنشورات

أعرابي في المدح:

ذكر أعرابي قوما عبادا، فقال: تركوا والله النعيم ليتنعموا؛ لهم عبرات متدافعة، وزفرات متتابعة، لا تراهم إلا في وجه وجيه عند الله.
وذكر أعرابيّ قوما فقال: أدّبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب؛ فلم تغرّهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي به قطع الناس مسافة آجالهم: فدلّت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالوجد «1» فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال.
وسئل أعرابي عن قوم فقال: كانوا إذا اصطفوا سفرت «2» بينهم السهام؛ وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها؛ فرب يوم عارم «3» قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد ضاحكتها أسنتهم؛ إنما قومي البحر. ما ألقمته التقم.
وذكر أعرابي قوما فقال: ما رأيت أسرع [منهم] إلى داع بليل على فرس حسيب «4» وجمل نجيب. ثم لا ينتظر الأول السابق الآخر اللاحن.
وذكر أعرابي قوما فقال: جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم. فالخير بهم زائد، والمعروف لهم شاهد؛ فيعطونها بطيبة أنفسهم إذا طلبت إليهم. ويباشرون المعروف بإشراق الوجوه إذا بغي لديهم.
وذكر أعرابي قوما فقال: والله ما أنالوا شيئا بأطراف أناملهم إلا وطئناه بأخماص أقدامنا؛ وإن أقصى هممهم لأدنى فعالنا.
وذكر أعرابي أميرا فقال: إذا ولى يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه؛ فهو غائب عنهم شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.
ودخل أعرابي على رجل من الولاة فقال: أصلح الله الأمير، اجعلني زماما من أزمتك تجرّبه الأعداء، فإني مسعر حرب، وركّاب نجب، شديد على الأعداء لين على الأصدقاء؛ منطوي الحصيلة، قليل الثميلة «1» ، نومي غرار «2» ، قد غذتني الحرب بأفاويقها، وحلبت الدهر أشطره؛ ولا تمنعك مني الدمامة؛ فإن من تحتها شهامة.
وذكر أعرابي رجلا ببراعة المنطق فقال: كان والله بارع المنطق، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان، فصيح البيان، رقيق حواشي الكلام، بليل الريق، قليل الحركات، ساكن الإشارات.
وذكر أعرابي رجلا فقال: رأيت له حلما وأناة، يحدثك الحديث على مقاطعه، ينشدك الشعر على مدارجه، فلا تسمع له لحنا ولا إحالة «3» .
العتبي قال: ذكر أعرابي قوما، فقال: آلت سيوفهم ألّا تقضي دينا عليهم، ولا تضيّع حقا لهم، فما أخذ منهم مردود إليهم، وما أخذوا متروك لهم.
ومدح أعرابي رجلا، فقال: ما رأيت عينا قط أخرق لظلمة الليل من عينه ولحظة أشبه بلهيب النار من لحظته؛ له هزة كهزة السيف إذا طرب، وجرأة كجرأة الليث إذا غضب.
ومدح أعرابي رجلا، فقال: كان الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين؛ لم أر أحدا أرتق لخلل الرأي منه، بعيد مسافة العقل ومراد الطرف، إنما يرمي بهمته حيث أشار الكرم.
ومدح أعرابيّ رجلا فقال: ذاك والله فسيح النسب، مستحكم الأدب، من أي أقطاره أتيته انتهى إليك بكرم فعال، وحسن مقال.
ومدح أعرابي رجلا فقال: كانت ظلمة ليله كضوء نهاره، آمرا بإرشاد، وناهيا عن فساد، لحديث السوء غير منقاد.
وقال أعرابي: إن فلانا «نعم» للسانه قبل أن يخلق لسانه لها: فما تراه الدهر إلا وكأنه لا غنى له عنك وإن كنت إليه أحوج؛ إذا أذنبت إليه غفر وكأنه المذنب، وإذا أسأت إليه أحسن وكأنه المسيء.
وذكر أعرابي رجلا فقال: اشترى والله عرضه من الذي؛ فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى بعدها عليه حقوقا، وكان منهاجا للأمور المشكلة إذا تناجز الناس باللائمة.
ومدح أعرابيّ رجلا فقال: كان والله يغسل من العار وجوها مسودة، ويفتح من الرأي عيونا منسدة.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك والله ينفع سلمه ولا يستمر ظلمه؛ إن قال فعل، وإن ولى عدل.
ومدح أعرابي رجلا فقال: ذاك والله يعني في طلب المكارم، غير ضال في مسالك طرقها، ولا مشتغل عنها بغيرها.
وذكر أعرابي رجلا فقال: يفوّق الكلمة على المعنى فتمرق مروق السهم من الرميّة، فما أصاب قتل، وما أخطأ أشوى «1» ، وما عظعظ «2» له سهم منذ تحرك لسانه في فيه.
وذكر أعرابي أخاه فقال: كان والله ركوبا للأهوال، غير ألوف لربّات الحجال؛ إذا أرعد القوم من غير كرّ، يهين نفسا كريمة على قومها، غير مبقية لغد ما في يومها.
ومدح رجل رجلا فقال: كأن الألسن ريضت «3» فما تنعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا بثنائه.
ومدح أعرابي رجلا فقال: كان والله للإخاء وصولا، وللمال بذولا، وكان الوفاء بهما عليه كفيلا، فمن فاضله كان مفضولا.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: التباعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير.
ومدح أعرابي: رجلا فقال: كان والله من شجر لا يخلف ثمره، ومن بحر لا يخاف كدره.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك والله فتى زانه الله بالخير ناشئا، فأحسن لبسه، وزين به نفسه.
ومدح أعرابي رجلا فقال: يصم أذنيه عن استماع الخنا «1» ، ويخرس لسانه عن التكلم به؛ فهو الماء الشّريب «2» ، والمصقع الخطيب.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رجل سبق إليّ معروفه قبل طلبي إليه، فالعرض وافر، والوجه بمائه، وما أستقل بنعمة إلا أثقلني بأخرى.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رضيع الجود والمفطوم به، عيّ عن الفحشاء، معتصم بالتقوى؛ إذا خرست الألسن عن الرأي حذف «3» بالصواب كما يحذف الأرنب، فإن طالت الغاية ولم يكن من دونها نهاية تمهل أمام القوم سابقا.
وذكر أعرابي رجلا فقال: إن جليسه لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء.
وذكر أعرابي رجلا فقال: كان له علم لا يخالطه جهل، وصدق لا يشوبه كذب، كأنه الوبل عند المحل.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ما رأيت أعشق للمعروف منه، وما رأيت المنكر أبغض لأحد منه.
وقدم أعرابي البادية وقد نال من بني برمك، فقيل له: كيف رأيتهم؟ قال: رأيتهم قد أنست بهم النعمة كأنها من بناتهم.
قال: وذكر أعرابي رجلا فقال: ما زال يبني المجد، ويشتري الحمد، حتى بلغ منه الجهد.
ودخل أعرابي على بعض الملوك فقال: إن جهلا أن يقول المادح بخلاف ما يعرف من الممدوح، وإني والله ما رأيت أعشق للمكارم في زمان اللؤم منك. ثم أنشد:
مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأن بابك مجمع الأسواق
حابوك أم هابوك أم شاموا النّدى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إني رأيتك للمكارم عاشقا ... والمكرمات قليلة العشّاق
وأنشد أعرابي في مثل هذا المعنى:
بنت المكارم وسط بيتك بيتها ... فتلادها بك للصديق مباح
وإذا المكارم أغلقت أبوابها ... يوما فأنت لقفلها مفتاح
وأنشد أعرابي في بني المهلّب:
قدمت على آل المهلّب شاتيا «1» ... قصيّا بعيد الدار في زمن المحل
فما زال بي إلطافهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
وأنشد أعرابي:
كأنك في الكتاب وجدت لاء ... محرمة عليك فما تحلّ
وما تدري إذا أعطيت مالا ... أتكثر من سماحك أم تقل
إذا دخل الشتاء فأنت شمس ... وإن دخل المصيف فأنت ظل
وقال أعرابي في مدح عمر بن عبد العزيز:
مقابل الأعراق في الطاب الطاب ... بين أبي العاص وآل الخطاب «2»
وأنشد أعرابي:
لنا جواد أعار النّيل نائله ... والنّيل يشكر منه كثرة النيل
ان بارز الشمس ألقى الشمس مظلمة ... أو زاحم الصّم ألجاها إلى الميل
أهدى من النّجم إن تأتيه مشكلة ... وعند إمضائه أمضى من السيل
والموت يرهب أن يلقى منيّته ... في شدّه عند لفّ الخيل بالخيل













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید