المنشورات

أعرابي في الذمّ

الأصمعي قال: ذكر أعرابي قوما فقال: أولئك سلخت أقفاؤهم بالهجاء، ودبغت وجوههم باللؤم؛ لباسهم في الدنيا الملامة، وزادهم إلى الآخرة الندامة.
قال: وذكر أعرابي قوما فقال: لهم بيوت تدخل حبوا إلى غير نمارق «1» ولا وسائد، فصح الألسن بردّ السائل؛ جعد الأكف عن النائل.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: لقد صغّر فلانا في عيني عظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل إذا أتاه، ملك الموت إذا رآه.
وسئل أعرابي عن رجل، فقال: ما ظنكم بسكّير لا يفيق، يتهم الصديق، ويعصى الشفيق، لا يكون في موضع إلا حرمت فيه الصلاة، ولو أفلتت كلمة سوء لم تصر إلا إليه، ولو نزلت لعنة من السماء لم تقع إلا عليه.
وذكر أعرابي قوما فقال: أقل الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم تجرّما على أصدقائهم؛ يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء.
وذكر أعرابي رجلا فقال: إن فلانا ليعدي بإثمه من تسمّى باسمه، ولئن خيبني فلرب باقية قد ضاعت في طلب رجل كريم.
وذكر أعرابي رجلا فقال: تغدو إليه مراكب الضلالة فترجع من عنده ببدور «2»
الآثام، معدم ما تحب، مثر مما تكره. وصاحب السوء قطعة من النار.
وقال أعرابي لرجل: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، وإذا حدّث حلف، وإذا وعد أخلف؛ تنظر نظر حسود، وتعرض إعراض حقود.
وسافر أعرابي إلى رجل فحرّمه، فقال لما سئل عن سفره: ما ربحنا في سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا؛ فأمّا الذي لقينا من الهواجر، ولقيت منا الأباعر، فعقوبة لنا فيما أفسدنا من حسن ظننا. ثم أنشأ يقول:
رجعنا سالمين كما خرجنا ... وما خابت سريّة سالمينا
لشاعر في الهجاء:
وقال أعرابي:
لمّا رأيتك لا فاجرا ... قويّا ولا أنت بالزاهد
ولا أنت بالرجل المتّقي ... ولا أنت بالرجل العابد
عرضتك في السّوق سوق الرقيق ... وناديت هل فيك من زائد
على رجل خان ودّ الصديق ... كفور بأنعمه جاحد
فما جاءني رجل واحد ... يزيد على درهم واحد
سوى رجل زادني دانقا ... ولم يك في ذاك بالجاهد «1»
فبعتك منه بلا شاهد ... مخافة ردّك بالشاهد
وأبت إلي منزلي غانما ... وحلّ البلاء على الناقد
لبعض الأعراب:
قال: وذكر أعرابي رجلا، قال: كان إذا رآني قرّب من حاجب حاجبا، فأقول له: لا تقبّح وجهك إلى قبحه، فوالله ما أتيتك لطمع راغبا، ولا لخوف راهبا.
وذم أعرابي رجلا فقال: عبد الفعال، حر المقال؛ عظيم الرواق، دنيء الأخلاق؛ الدهر يرفعه، ونفسه تضعه.
وذمّ أعرابي رجلا فقال: ضيق الصدر، صغير القدر، عظيم الكبر، قصير الشبر، لئيم النّجر «1» ، كثير الفخر.
وقال أعرابي: دخلت البصرة فرأيت ثياب أحرار على أجساد عبيد؛ إقبال حظهم إدبار حظ الكرام، شجر أصوله عند فروعه، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك يتيم، أعيا ما يكون عند جلسائه أبلغ ما يكون عند نفسه.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذلك إلى من يداوي عقله من الجهل، أحوج منه إلى من يداوي بدنه من المرض؛ إنه لا مرض أوجع من قلة عقل.
وذكر أعرابي رجلا لم يدرك بثأره، فقال: كيف يدرك بثأره من في صدره من اللؤم حشو مرفقته؛ ولو دقّت بوجهه الحجارة لرضّها «2» ، ولو خلا بالكعبة لسرقها.
وذكر أعرابي رجلا فقال: تسهر والله زوجته جوعا إذا سهر الناس شبعا؛ ثم لا يخاف مع ذلك عاجل عار، ولا آجل نار؛ كالبهيمة أكلت ما جمعت، ونكحت ما وجدت.
وسمع أعرابي رجلا يزعق، فقال: ويحك! إنما يستجاب لمؤمن أو مظلوم، ولست بواحد منهما؛ وأراك يخف عليك ثقل الذنوب فيحسّن عندك مقابح العيوب.
وذكر أعرابي رجلا بضعف فقال: سيء الروية، قليل التقية «3» ، كثير السعاية، ضعيف النكاية.
وذكر أعرابي رجلا فقال: عليه كل يوم من فعله شاهد بفسقه؛ وشهادات الأفعال أعدل من شهادات الرجال.
وذكر أعرابي رجلا بذلة فقال: عاش خاملا ومات موتورا.
وذكر قوما فقال: ألبسوا نعمة ثم عرّوا منها فقال: ما كانت النعمة إلا طيفا لما انتبهوا لها ذهبت عنهم.
وذم أعرابي رجلا فقال: هو كعبد القنّ «1» يسرك شاهدا ويسوءك غائبا.
ودعت أعرابية على رجل فقالت: أمكن الله منك عدوّا حسودا، وفجع بك صديقا ودودا؛ وسلط عليك همّا يضنيك، وجارا يؤذيك.
وقال أعرابي لرجل شريف البيت دنيء الهمة: ما أحوجك أن يكون عرضك لمن يصونه، فتكون فوق ما أنت دونه.
وذكر أعرابي رجلا فقال: إن حدّثته يسابقك إلى ذلك الحديث، وإن سكتّ عنه أخذ في الترّهات.
وذكر أعرابي أميرا فقال: يصل النشوة، ويقضي بالعشوة «2» ، ويقبل الرشوة.
وذكر أعرابي رجلا راكبا هواه، فقال: والله لهو أسرع إلى ما يهواه، من الأسن «3» إلى راكد المياه، أفقره ذلك أو أغناه.
وقال أعرابي: ليت فلانا أقالني من حسن ظني به، فأختم بصواب إذ بدأت بخطأ؛ ولكن من لم تحكمه التجارب أسرع بالمدح إلى من يستوجب الذم، وبالذم إلى من يستوجب المدح.
وقال أعرابي لرجل: هل أنت إلا أنت لم تغير! ولو كنت من كنت حديد وضعت على أتون محمىّ لم تذب.
وسمعت أعرابيا يقول لأخيه: قد كنت نهيتك أن تدنس عرضك بعرض فلان، وأعلمتك أنه سمين المال، مهزول المعروف، من المرزوقين فجأة، قصير عمر الغنى، طويل عمر الفقر.
أقبل أعرابي إلى سوّار فلم يصادف عنده ما أحب، فقال فيه:
رأيت لي رؤيا وعبّرتها ... وكنت للأحلام عبّارا
بأنني أخبط في ليلتي ... كلبا فكان الكلب سوّارا
وقال أعرابي في ابن عم له يسمى زيادا:
من يبادلني قريبا ... ببعيد من أياد؟
من يقادر، من يطافس ... من يناذل بزياد «1»
في هجاء ابن سلم:
وقال سعيد بن سلم الباهلي: مدحني أعرابيّ، فاستبطأ الثواب فقال:
لكلّ أخي مدح ثواب يعدّه ... وليس لمدح الباهليّ ثواب
مدحت سعيدا والمديح مهزّة ... فكان كصفوان، عليه تراب «2»
وقال أيضا:
وإنّ من غاية حرص الفتى ... طلابه المعروف في باهله
كبيرهم وغد ومولودهم ... تلعنه في قبحه القابله
وقال أيضا:
سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
وقال فيه:
لمّا رآنا فرّ بوّابه ... وانسدّ في غير يد بابه
وعنده من مقته حاجب ... يحجبه إن غاب حجّابه
في هجاء مساور:
دخل أعرابي على المساور بن هند وهو على الريّ، فلم يعطه شيئا؛ فخرج وهو يقول:
أتيت المساور في حاجة ... فما زال يسعل حتى ضرط
وحكّ قفاه بكرسوعه ... ومسّح عثنونه وامتخط «1»
فأمسكت عن حاجتي خيفة ... لأخرى تقطّع شرج السّفط «2»
فأقسم لو عدت في حاجتي ... للطّخ بالسلح وجه النّمط «3»
وقال غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضّرط جاء الغلط
وكان كلما ركب صاح الصبيان: من الضرط جاء الغلط. حتى هرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان.
في رجل قصير:
أبو حاتم عن أبي زيد، قال: أنشدنا أعرابي في رجل قصير:
يكاد خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد استه وهو قائم
في امرأة قبيحة:
وذكر أعرابي امرأة قبيحة، فقال: ترخي ذيلها على عرقوبي نعامة، وتسدل خمارها على وجه كالجعالة» .
لبعض الأعراب:
العتبي قال: سمعت أعرابيا يقول: لا ترك الله مخّا في سلامى «1» ناقة حملتني إليك وللدّاعي عليها أحق بالدعاء عليه؛ إذ كلفها المسير إليك.
وقال أعرابي لابن الزبير لا بوركت ناقة حملتني إليك. قال: إنّ وصاحبها. قوله:
إنّ، يريد «نعم» . قال قيس الرقيات:
وتقول شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنّه
يريد: نعم.
وذكر أعرابي، رجلا، فقال: لا يؤنس جارا، ولا يؤهل دارا، ولا يثقب «2» نارا.
وسأل أعرابي رجلا فحرمه، فقال له أخوه؛ نزلت والله بواد غير ممطور، وبرجل غير مبرور؛ فارتحل بندم، أو أقم بعدم.
ودخلت أعرابية على حمدونة بنت المهدي؛ فلما خرجت سئلت عنها، فقالت: والله لقد رأيتها فما رأيت طائلا؛ كأن بطنها قربة، وكأن ثديها دبّة «3» ، وكأن استها رقعة، وكأن وجهها وجه ديك قد نفش عفريته «4» يقاتل ديكا.
وصاحب أعرابي امرأة فقال لها: والله إنك لمشرفة الأذنين، جاحظة العينين، ذات خلق متضائل، يعجبك الباطل، إن شبعت بطرت، وإن جعت صخبت، وإن رأيت حسنا دفنتيه، وإن رأيت سيئا أذعتيه؛ تكرمين من حقرك، وتحقرين من أكرمك.
وهجا أعرابي امرأته فقال:
يا بكر حوّاء من الأولاد ... وأمّ آلاف من العباد
عمرك ممدود إلى التّنادي ... فحدّثينا بحديث عاد
والعهد من فرعون ذي الأوتاد ... يا أقدم العالم في الميلاد
إني من شخصك في جهاد
في عجوز:
وقال أعرابي في امرأة تزوجها، وقد خطبها شابة طرية ودسّوا إليه عجوزا:
عجوز ترجّي أن تكون فتيّة ... وقد نحل الجنبان واحدودب الظّهر
تدسّ إلى العطّار سلعة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر «1»
تزوجتها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقا كله ذلك الشهر
وما غرّني إلا خضاب بكفّها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصّفر
وقال فيها:
ولا تستطيع الكحل من ضيق عينها ... فإن عالجته صار فوق المحاجر
وفي حاجبيها حزّة كغرارة ... فإن حلقا كانا ثلاث غرائر «2»
وثديان أمّا واحد فهو مزود ... وآخر فيه قربة للمسافر «3»
وقال فيها:
لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
وتبرق عيناها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضّجيع وتكلح
لها مضحك كالحشّ تحسب أنها ... إذا ضحكت في أوجه القوم تسلح «4»
وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته ... توهّمته بابا من النار يفتح
إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوّذ منها حين يمسي ويصبح
وقال أعرابي في سوداء:
كأنها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها
وقال فيها:
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده
وقال كثيّر في نصيب بن رباح، وكان أسود:
رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم
تراه على مالاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم «1»
أعرابي وعامل:
وقال رجل من العمال لأعرابي: ما أحسبك تعرف كم تصلي في كل يوم وليلة! فقال له: فإن عرفت أتجعل لي على نفسك مسألة؟ قال: نعم. قال:
إنّ الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيّع
قال: صدقت، هات مسألتك؟ قاله له: كم فقار ظهرك؟ قال: لا أدري. قال:
فتحكم بين الناس وتجهل هذا من نفسك؟
قولهم في الغزل لبعض الأعراب:
ذكر أعرابي امرأة فقال: لها جلد من لؤلؤ مع رائحة المسك، وفي كل عضو منها شمس طالعة.
وذكر أعرابي امرأة، فقال: كاد الغزال أن يكونها لولا ما تم منها وما نقص منه.
وقال أعرابي في امرأة ودّعها للمسير: والله ما رأيت دمعة ترقرق من عين بإثمد «2» على ديباجة خدّ، أحسن من عبرة أمطرتها عينها فأعشب لها قلبي.
قال: سمعت أعرابيا يقول: إن لي قلبا مروعا، وعينا دموعا؛ فماذا يصنع كل واحد منهما بصاحبه، مع أن داءهما، دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما؟
وقال أعرابي: دخلت البصرة، فرأيت أعينا دعجا، وحواجب زجّا «1» ، يسحبن الثياب، ويسلبن الألباب.
وذكر أعرابي امرأة فقال: خلوت بها ليلة يزينها القمر، فلما غاب أرتنيه قلت له:
فما جرى بينكما؟ فقال: أقرب ما أحل الله مما حرّم الإشارة بغير باس، والتقرب من غير مساس.
وذكر أعرابي امرأة فقال: هي أحسن من السماء، وأطيب من الماء.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: ما أشد جولة الرأي عند الهوى، وفطام النفس عن الصبا؛ ولقد تقطعت كبدي للعاشقين. لوم العاذلين قرطة «2» في آذانهم، ولوعات الحب جبرات على أبدانهم، مع دموع على المغاني، كغروب السواني «3» .
وذكر أعرابي امرأة فقال: لقد نعمت عين نظرت إليها، وشفي قلب تفجع عليها؛ ولقد كنت أزورها عند أهلها؛ فيرحب بي طرفها، ويتجهّمني لسانها. قيل له: فما بلغ من حبك لها؟ قال: إني ذاكر لها وبيني وبينها عدوة الطائر، فأجد لذكرها ريح المسك.
وذكر أعرابي نسوة خرجن متنزهات، فقال: وجوه كالدنانير، وأعناق كأعناق اليعافير «4» ، وأوساط كأوساط الزناببر، أقبلن إلينا بحجول تخفق، وأوشحة تعلق، وكم أسير لهنّ وكم مطلق.
قال: وسمعت أعرابيا يقول اتبعت فلانة إلى طرابلس الشام؛ والحريص جاحد، والمضل ناشد؛ ولو خضت إليها النار ما ألمتها.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: الهوى هوان ولكن غلط باسمه، وإنما يعرف من يقول، من أبكته المنازل والطول.
وقال أعرابي: كنت في شباب أعضّ على الملام، عضّ الجواد على اللجام، حتى أخذ الشيب بعنان شبابي.
وذكر أعرابي امرأة فقال: إن لساني لذكرها لذلول، وإن حبّها لقلبي لقتول، وإن قصير الليل بها ليطول.
وصف أعرابي نساء ببلاغة وجمال، فقال: كلامهنّ أقتل من النبل، وأوقع بالقلب من الوبل بالمحل؛ فروعهنّ أحسن من فروع النخل.
ونظر أعرابي إلى امرأة حسناء جميلة تسمى ذلفاء، ومعها صبي يبكي، فكلما بكى قبلته؛ فأنشأ يقول:
يا ليتني كنت صبيّا مرضعا ... تحملني الذّلفاء حولا أكتعا «1»
إذا بكيت قبّلتني أربعا ... فلا أزال الدهر أبكى أجمعا
وأنشد أبو الحسن علي بن عبد العزيز بمكة لأعرابي:
جارية في سفوان دارها ... تمشي الهوينا مائلا خمارها «2»
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها ... يطير من غلمتها إزارها «3»
العتبي قال: وصف أعرابي امرأة حسناء، فقال: تبسم عن خمش اللثات «4» ، كأفاحي النبات، فالسعيد من ذاقه، والشقي من راقه.
وقال العتبي: خرجت ليلة حين انحدرت النجوم وشالت أرجلها؛ فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر، فإذا بجارية كأنها علم، فجعلت أغازلها، فقالت: يا هذا، أمالك ناه من كرم، إن لم يكن لك زاجر من عقل! قلت: والله ما يراني إلا الكواكب. قالت: فأين مكوكبها.
ذكر أعرابي امرأة فقال: هي السقيم الذي لا برء معه، والبرء الذي لا سقم معه؛ وهي أقرب من الحشا، وأبعد من السما.
وقال أعرابي وقد نظر إلى جارية بالبصرة في مأتم:
بصريّة لم تبصر العين مثلها ... غدت ببياض في ثياب سواد
غدوت إلى الصحراء تبكين هالكا ... فأهلكت حيا، كنت أشأم عاد!
فيا ربّ خذ لي رحمة من فؤادها ... وحل بين عينيها وبين فؤادي
وقال في جارية ودّعها:
مالت تودّعني والدمع يغلبها ... كما يميل نسيم الريح بالغصن
ثم استمرّت وقالت وهي باكية ... ياليت معرفتي إيّاك لم تكن
العتبي قال: أنشد أعرابي:
يا زين من ولدت حواء من ولد ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب
أنت التي من أراه الله صورتها ... نال الخلود فلم يهرم ولم يشب
وأنشد الرياشي لأعرابي:
من دمنة خلقت عيناك في هتن ... فما يردّ البكا جهلا من الدّمن «1»
ما كنت للقلب إلا فتنة عرضت ... يا حبّذا أنت من معروضة الفتن
تسيء سلمى وأجزيها به حسنا ... فمن سواي يجازي السّوء بالحسن
قال وسمعت أعرابيا يصف امرأة؛ فقال: بيضاء جعدة «2» ، لا يمس الثوب منها إلا مشاشة «3» كتفيها، وحلمتي ثدييها، ورضفتي «4» ركبتيها، ورانفتي «5» أليتيها:
وأنشد:
أبت الرّوادف والثّديّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا
وإذا الرّياح مع العشيّ تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا
وقال أعرابي: ليت فلانة حظي من أملي، ولرب يوم سرته إليها حتى قبض الليل بصري دونها؛ وإن من كلام النساء فقال: تلك شمس باهت الأرض شمس سمائها، وليس لي شفيع في اقتضائها، وإن نفسي لكتوم لدائها، ولكنها تفيض عند امتلائها.
أخذ هذا المعنى حبيب فقال:
ويا شمس أرضيها التي تم نورها ... فباهت بها الأرضون شمس سمائها
شكوت وما الشّكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النّفس عند امتلائها.
وقيل لأعرابي: ما بال الحب اليوم على غير ما كان عليه قبل اليوم؟ قال: نعم، كان الحب في القلب فانتقل إلى المعدة؛ إن أطعمته شيئا أحبها، وإلا فلا: كان الرجل يحب المرأة، يطيف بدارها حولا، ويفرح إن رأى من رآها، وإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار؛ وإنه اليوم يشير إليها وتشير إليه، ويعدها وتعده فإذا اجتمعا لم يشكوا حبا، ولم ينشدا شعرا، ولكن يرفع رجليها ويطلب الولد.
وقال أعرابي:
شكوت! فقالت: كلّ هذا تبرّما ... بحبي! أراح الله قلبك من حبّي
فلمّا كتمت الحبّ قالت: لشدّ ما ... صبرت! وما هذا بفعل شجي القلب!
وأدنو فتقصيني، فأبعد طالبا ... رضاها، فتعتدّ التّباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها، وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشّكر من ربي
قولهم في الخيل
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: خرجت علينا خيل مستطيرة النقع «1» ، كأنّ هواديها «2» أعلام. وآذانها أطراف أقلام؛ وفرسانها أسود آجام.
أخذ هذا المعنى عدي بن الرقاع فقال:
يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام
وقال أعرابي: خرجنا حفاة حين انتعل كلّ شيء بظلّه، وما زادنا إلا التوكل ولا مطايانا إلا الأرجل؛ حتى لحقنا القوم.
وذكر أعرابي فرسا وسرعته؛ فقال: لما خرجت الخيل أقبل شيطانا في أشطان، فلما أرسلت لمع لمع البرق؛ فكان أقربها «3» إليه الذي تقع عينه [من بعد] عليه.
وقال أعرابي في فرس الأعور السلمي:
مرّ كلمع البرق سام ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمسّ الأرض منه حافره
سئل أعرابي عن سوابق الخيل، فقال: الذي إذا مشى ردى «4» ، وإذا عدا دحا «5» ؛ وإذا استقبل أقعى، وإذا استدبر جبّى «6» ، وإذا اعترض استوى.
وذكر أعرابي خيلا؛ فقال: والله ما انحدرت في واد إلا ملأت بطنه، ولا ركبت بطن جبل إلا أسهلت حزنه.
وقال أعرابي: خرجت على فرس يختال اختيال النّشوان، نسوف للحزام؛ مهارش للجام؛ فما متع «7» النهار حتى أمتعنا برف ورفاهة.









مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید