المنشورات

عذري في حضر المسلمين:

بلغني عن محمد بن يزيد بن معاوية، أنه كان نازلا بحلب على الهيثم بن عدي، فبعث إلى ضيف له من عذرة أعرابيّ، فقال له: حدّث أبا عبد الله بما رأيت في حضر المسلمين من الأعاجيب. قال: نعم، رأيت أمورا معجبة. منها أنني دخلت قرية بكر بن عاصم الهلالي، وإذا أنا بدور متباينة، وإذا خصاص «2» بيض بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون، وعليهم ثياب حكوا بها أنواع الزهر؛ فقلت لنفسي: هذا أحد العيدين: الفطر أو الأضحى. ثم رجع إليّ ما عزب من عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في عقب صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك! فبينا أنا واقف أتعجب إذا أتاني رجل فأخذ بيدي فأدخلني بيتا قد نجّد، وفي وجهه فرش ممهدة، وعليها شاب ينال فرع شعره كتفيه، والناس حوله سماطين «1» ، فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي يحكي لنا جلوسه وجلوس الناس حوله. فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله! قال: فجذب رجل بيدي وقال: ليس بالأمير، آجلس. قلت فمن هو؟ قال: عروس. قلت: وا ثكل أمّاه! لربّ عروس بالبادية قد رأيته أهون على أصحابه من هن أمه! فلم ألبث أن أدخلت الرجال عليها هنات مدوّرات من خشب، أما ما خف منها فيحمل حملا، وأما ما ثقل فيد حرج؛ فوضعت أما منا وتحلّق القوم عليها حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت عليها؛ فهممت والله أن أسأل القوم خرقة منها أرقع بها قميصي، وذلك أني رأيت لها نسجا متلاحما لا يتبين له سدى ولا لحمة؛ فلما بسط القوم أيديهم، إذا هو يتمزق سريعا، وإذا صنف من الخبز لا أعرفه؛ ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض، وحارّ وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعلم ما في عقبه من التخم والبشم «2» ؛ ثم أتينا بشراب أحمر في عساس «3» بيض؛ فلما نظرت إليه قلت: لا حاجة لي به؛ لأني أخاف أن يقتلني! وكان إلى جانبي رجل ناصح لي- أحسن الله عني جزاءه! - كان ينصحني بين أهل المجلس؛ فقال لي: يا أعرابي، إنك قد أكثرت من الطعام فإن شربت الماء همى «4» بطنك. فلما ذكر البطن، ذكرت شيئا أوصاني به الأشياخ، قالوا: لا تزال حيا ما دام بطنك شديدا، فإذا اختلفت فأوص. فلم أزل أتداوى بذلك الشراب ولا أملّه، حتى داخلني به صلف لا أعرفه من نفسي ولا عهد لي به، واقتدار على أمري؛ وكان إلى جانبي الرجل الناصح لي؛ فجعلت نفسي تحدثني بهتم أسنانه مرة، وهشم أنفه أخرى؛ وأهم أحيانا أن أقول له: يا ابن الزانية! فبينا نحن كذلك، إذ هجم علينا شياطين أربعة:
أحدهم قد علق جعبة فارسية منتفخة الطرفين قد شبكت بالخيوط، وقد ألبست قطعة فرو، كأنهم يخافون عليها القر؛ ثم بدا الثاني فاستخرج من كمه هنة كفيشلة الحمار، فوضع طرفها في فيه فضرط فيها، ثم حسب على جحرة فاستخرج منها صوتا مشاكلا بعضه بعضا؛ ثم بدا الثالث وعليه قميص وسخ، وقد غرق رأسه بالدهن معه مرآتان، فجعل يمري إحداهما على الأخرى؛ ثم بدأ الرابع عليه قميص قصير وسراويل قصيرة، فجعل يقفز صلبه، ويهز كتفيه، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه وربّ الكعبة. ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم. فبعثوا بهم إليهن، وبقيت الأصوات تدور في آذاننا؛ وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة في يده، عينها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من جوانبها عودا فوضعه على أذنه، ثم زمّ الخيوط الظاهرة، فلما أحكمها عرك أذنها فنطق فوها، فإذا هي أحسن قينة رأيتها قط [وغنّى عليها] فاستخفّني حتى قمت من مجلسي فجلست إليه فقلت:
بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة؟ قال: يا أعرابي، هذا البربط «1» . قلت: فما هذه الخيوط؟ قال: أما الأسفل فزير، والذي يليه مثنى، والذي يليه مثلث. والذي يليه بمّ. فقلت: آمنت بالله.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید