المنشورات

خبر أبي الزهراء

المعلي بن المثني الشيباني قال: حدثنا سويد بن منجوف قال: أقبل أعرابي من بني تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جبانة السبيع، تحته أتان «1» له تخب، وعليها ذلاذل «2» وأطمار من سحق صوف، قد اعتم بما يشبه ذلك؛ من أشوه الناس منظرا وأقبحهم شكلا؛ وهو يهدر كما يهدر البعير وهو يقول ألاسبد، ألا لبد «3» ألا مؤو ألا مقر، ألا سعديّ ألا يربوعيّ، ألا دارميّ! هيهات هيهات! وما يغني أصل حوض الماء صاديا معنى! قال سويد: فدخل علينا في درب الكناسة فلم يجد منفذا وقد تبعه صبيان كثير وسواد من سواد الحي، قال: فسمعت سواديا يقول له: يا عماه، يا إبليس! متى أذن لك بالظهور؟ فالتفت إليهم، فقال منذ سروا آباءكم وفشّوا أمهاتكم! قال: وكان معنا أبو حماد الخياط، وكان من أطلب الناس لكلام الأعراب وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي، فدخل علينا وكان مع ذلك مولى بني تميم، فأتيته فأخبرته؛ فخرج مبادرا كأني قد أفدته فائدة عظيمة؛ وقد نزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحيطان وأخذ قوسه بيده؛ فتارة يشير بها إلى الصبيان، وتارة يذبّ الشذا عن الأتان- وهو يقول لأتانه:
قد كنت بالأمعز في خصب خصب ... ما شئت من حمض وماء منسكب «4»
فربّك اليوم ذليل قد نصب ... يرى وجوها حوله ما ترتقب
ولا عليها نور إشراف الحسب ... كأنها الزّنج وعبدان العرب
إلى عجيل كالرعيل والسرب ... ولو أمنت اليوم من هذا اللّجب «5»
رميت أفواقا قويمات النّصب ... الرّيش أولاها وأخراها العقب
قال: فلم يزل أبو حماد يلطفه ويتلطف به ويبجله، إلى أن أدخله منزله؛ فمهد له وحطه عن أتانه، ودعا بالعلف؛ فجعل الأعرابي يقول: أين الليف والنّئيف «1» والوساد والنجاد؟ يعني بالليبف: الحصير؛ وبالنئيف عشبة عندهم يقال لها البهمى «2» والوساد:
جلد عنز يسلخ ولا يشق ويحشى وبرا وشعرا ويتّكأ عليه؛ والنجاد: مسح شعر يستظل تحته. قال: فلما نزع القتب عن الأتان إذا ظهرها قد دبر حتى أضرّت بنا رائحته:
فجعل الأعرابي يتنهد ويقول:
إن تنحضي أو تدبري أو تزجري ... فذاك من دءوب ليل مسهر «3»
أنا أبو الزهراء من آل السّري ... مشمّخ الأنف كريم العنصر
إذا أتيت خطّة لم أقسر «4»
وكان يسمى الأعرابي صلتان بن عوسجة من بني سعد بن دارم، ويكنى بأبي الزهراء، وما رأيت أعرابيا أعجب منه؛ كان أكثر كلامه شعرا؛ وأمثل أعرابي سمعته كلاما؛ إلا أنه ربما جاء باللفظة بعد الأخرى لانفهمها؛ وكان من أضجر الناس وأسوئهم خلقا، وإذا نحن سألناه عن الشيء قال: ردّوا عليّ القوس والأتان! يظن أنا نتلاعب به، وكنا نجتمع معه في مجلس أبي حماد، وما منا إلا من يأتيه بما يشتهيه، فلا يعجبه ذلك؛ حتى أتيناه يوما بخربز «5» ، وكانت أمامه، فلما أبصرها تأملها طويلا وجعل يقول:
بدّلت والدهر قديما بدّلا ... من قيض بيض القفر فقعا حنظلا «6»
أخبث ما تنبت أرض مأكلا
فكنا نقول له: يا أبا الزهراء، إنه ليس بحنظل، ولكنه طعام هنيء مريء، ونحن نبدؤك فيه إن شئت. قال: فخذوا منه حتى أرى! فبدأنا نأكل وهو ينظر لا يطرف، فلما رأى ذلك بسط يده فأخذ واحدة، فنزع أعلاها وقوّر أسفلها، فقلنا له:
ما تريد أن تصنع يا أبا الزهراء؟ فقال: إن كان السم يا ابن أخي ففيما ترون! فلما طعمه استخفّه واستعذبه واستحلاه، فلم يكن يؤثر عليه شيئا، وما كنا نأتيه بعد بغيره، وجعل في خلال ذلك يقول:
هذا طعام طيّب يلين ... في الجوف والحلق له سكون
الشّهد والزبد به معجون
فلما كان إلى أيام، قلت له: يا أبا الزهراء، هل لك في الحمام؟ قال: وما الحمام يا ابن أخي؟ قلنا له: دار فيها أبيات: حارّ، وفاتر، وبارد؛ تكون في أيها شئت يذهب عنك قشف السفر ويسقط عنك هذا الشعر. قال: فلم نزل به حتى أجابنا، فأتينا به الحمام، وأمرنا صاحب الحمام أن لا يدخل علينا أحدا، فدخل وهو خائف مترقب، لا ينزع يده من يد أحدنا، حتى صار في داخل الحمام، فأمرنا من طلاه بالنّورة «1» ، وكان جلده أشعر كجلد عنز، فقلق ونازع للخروج، وبدأ شعره يسقط؛ فقلنا أحين طاب الحمام وبدأ شعرك يسقط تخرج؟ قال: يا بن أخي، وهل بقي إلا أن أنسلخ كما ينسلخ الأديم في احتدام القيظ! وجعل يقول:
وهل يطيب الموت يا إخواني ... هل لكم في القوس والأتان
خذوهما منّي بلا أثمان ... وخلّصوا المهجة يا صبيان
فاليوم لو أبصرني جيراني ... عريان بل أعرى من العريان
قد سقط الشّعر من الجثمان ... حسبت في المنظر كالشّيطان!
قال: ثم خرج مبادرا، واتبعه أحداث لنا، لولاهم لخرج بحاله تلك ما يستره شيء؛ ولحقناه في وسط البيوت، فأتيناه بماء بارد، فشرب وصب على رأسه، فارتاح واستراح، وأنشأ يقول:
الحمد للمستحمد القهّار ... أنقذني من حرّ بيت النار
إلى ظليل ساكن الأوار» ... من بعد ما أيقنت بالدّمار
قال: فدعونا له بكسوة غير كسوته فألبسناه، وأتينا به مجلس أبي حماد؛ وكان أبو حماد يبيع الحنطة والتمر وجميع الحبوب؛ وكان يجاوره قوم يبيعون أنبذة التمر وكان أبو الحسن التّمّار ماهرا؛ فإذا خضنا في النحو وذكرنا الرؤاسي والكسائي وأبا زيد، جعل ينظر، يفقه الكلام ولا يفهم التأويل؛ فقلنا له: ما تقول يا أبا الزهراء؟ فقال:
يا ابن أخي، إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له. فقال أبو الحسن: إن بهذا تعرف العرب صوابها من خطئها. فقال له: ثكلت وأثكلت! وهل تخطيء العرب؟ قال: بلى. قال: على أولئك لعنة الله وعلى الذين أعتقوا مثلك! قال سويد:
وكنت أحدثهم سنا (قال) فقلت: جعلت فداك، وأنا رجل من بني شيبان وربيعة؛ ما تعلم أنّا على مثل الذي أنت عليه من الإنكار عليهم؛ فقال فيهم:
يسائلني بيّاع تمر وجردق ... ومازج أبوال له في إنائه «2»
عن الرّفع بعد الخفض، لا زال خافضا ... ونصب وجزم صيغ من سوء رائه
فقلت له هذا كلام جهلته ... وذو الجهل يروي الجهل عن نظرائه
فقال بهذا يعرف النحو كلّه ... يرى أنني في العجم من نظرائه
فأمّا تميم أو سليم وعامر ... ومن حلّ غمر الضّالّ أو في إزائه
ففيهم وعنهم يؤثر العلم كلّه ... ودع عنك من لا يهتدي لخطائه
فمن ذا الرّؤاسي الذي تذكرونه ... ومن ذا الكسائي سالح في كسائه
ومن ثالث لم أسمع الدهر باسمه ... يسمّونه من لؤمه سيبوائه
فكيف يخلّ القول من كان أهله ... ويهدى له من ليس من أوليائه
فلست لبيّاع التّميرات مغضيا ... على الضّيم إن واقفت بعد عشائه
ولقد قلنا له: يا أبا الزهراء، هل قرأت من كتاب الله شيئا؟ قال: أي وأبيك، آيات مفصلات أردّدهن في الصلوات، آباء وأمهات، وعمات وخالات ثم أنشأ يقول:
قرأت قول الله في الكتاب ... ما أنزل الرّحمن في الأحزاب
لعظم ما فيها من الثّواب ... الكفر والغلظة في الأعراب
وأنا فاعلم من ذوي الألباب ... أومن بالله بلا ارتياب
في عرشه المستور بالحجاب ... والموت والبعث وبالحساب
وجنّة فيها من الثياب ... ما ليس بالبصرة في حساب
وجاحم يلفح بالتهاب ... أوجه أهل الكفر والسّباب «1»
ودفع رحل الطارق المنتاب ... في ليلة ساكتة الكلاب
ولما أحضرناه ذات يوم جنازة، فقلنا له: يا أبا الزهراء، كيف رأيت الكوفة؟
قال: يا ابن أخي، حضرا حاضرا؛ ومحلا آهلا؛ أنكرت من أفعالكم الأكيال والأوزان، وشكل النسوان. ثم نظر إلى الجبانة فقال: ما هذا التلال يا ابن أخي؟
قلت له: أجداث الموتي، فقال: أماتوا أم قتلوا؟ فقلت: قد ماتوا بآجالهم ميتات مختلفات. قال: فماذا ننتظر نحن يا ابن أخي؟ قلت: مثل الذي صاروا إليه: فاستعبر وبكى؛ وجعل يقول:
يا لهف نفسي أن أموت في بلد ... قد غاب عني الاهل فيه والولد
وكلّ ذي رحم شفيق معتقد ... يكون ما كنت سقيما كالرمد
يا ربّ يا ذا العرش وفّق للرّشد ... ويسّر الخير لشيخ مختضد «2»
ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى أخذته الحمى والبرسام «3» ؛ فكنا لا نبارحه عائدين متفقدين؛ فبينا نحن عنده ذات يوم وقد اشتد كربه وأيقن بالموت، جعل يقول:
أبلغ بناتي اليوم بالصّوى ... قد كنّ يأملن إيابي بالغنى «4»
وقد تمنّين وما يغني المنى ... بأنّ نفسي وردت حوض الرّدى
يا ربّ يا ذا العرش في أعلا السّما ... إليك قدّمت صيامي في الظّما
ومن صلاتي في صباح ومسا ... فعد على شيخ كبير ذي انحنا
يكفيه ما لاقاه في الدّنيا كفى
قلنا له: يا أبا الزهراء، ما تأمرنا في القوس والأتان، وفيما قسم الله لك عندنا من رزق؟ فقال: يا ابن أخي، أما ما قسم الله لي عندكم فمردود إليكم، وأما القوس والأتان فبيعوهما وتصدقوا بثمنهما في فقراء صلبة «1» بني تميم، وما بقي في مواليهم. ثم جعل يقول: اللهم اسمع دعاء عبدك إليك، وتضرعه بين يديك، واعرف له حق إيمانه بك، وتصديقه برسلك، صليت عليهم وسلمت؛ اللهم إني جان مقترف وهائب معترف، لا أدعي براءة، ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي، وتجاوزك عني؛ اللهم إنك كتبت على الدنيا التعب والنصب، وكان في قضائك، وسابق علمك قبض روحي في غير أهلي وولدي، اللهم فبدل لي التعب والنصب روحا وريحانا وجنة نعيم؛ إنك مفضل كريم. ثم صار يتكلم بما لا نفقهه ولا نفهمه حتى مات، رحمه الله؛ فما سمعت دعاء أبلغ من دعائه، ولا شهدت جنازة أكثر باكيا وداعيا من جنازته؛ رحمه الله.
وقال أعرابي يصف كساء:
من كان ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظ مصيّف مشتي «2»
نسجته من نعجات ست
وقال أعرابي:
قالت سليمى: ليت لي بعلا بمن ... يغسل رأسي ويسلّيني الحزن «3»
وحاجة ليس لها عندي ثمن ... مشهورة قضاؤها منه وهن «4»
قلن جواري الحيّ: يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما؟ قالت وإن!
وقال أعرابي:
جاريتان حلفت أمّاهما ... أن ليس مغبونا من اشتراهما
والله لا أخبركم إسماهما ... إلا بقولي هكذا هما هما
هما اللتان صادني سهماهما ... حيّا وحيّا الله من حيّاهما
أمات ربّي عاجلا أباهما ... حتى تلاقي منيتي مناهما
إنّ لنا لكنّه ... معنّة مفنّه «1»
سمعنّة نظرنّه ... إلا تره تظنّه
السمعنة النظرنة: المرأة التي إذا سمعت أو نظرت فلم تر شيئا تظنّت تظنيا. وأنشد أبو عبد الله بن لبانة الأعرابي:
كريمة يحبها أبوها ... مليحة العينين عذبا فوها
لا تحسن السّبّ وإن سبّوها













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید