المنشورات

جواب عقيل بن أبي طالب لمعاوية وأصحابه

لما قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية، أكرمه وقرّبه وقضى حوائجه وقضى عنه دينه، ثم قال له في بعض الأيام، والله إن عليا غير حافظ لك، قطع قرابتك وما وصلك ولا اصطنعك، قال له عقيل: والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنّه بالله، إذ ساء به ظنّك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته، إذ خنتم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أبالك، فإنه عما تقول بمعزل.
وقال له معاوية يوما: أبا يزيد، أنا لك خير من أخيك علي. قال: صدقت، إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك؛ فأنت خير لي من أخي، وأخي خير لنفسه منك.
وقال له ليلة الهدير: أبا يزيد، أنت الليلة معنا، قال: نعم؛ ويوم بدر كنت معكم.
وقال رجل لعقيل: إنك لخائن حيث تركت أخاك وترغب إلى معاوية، قال:
أخون مني والله من سفك دمه بين أخي وابن عمي، أن يكون أحدهما أميرا! ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره، فأجلسه معاوية على سريره ثم قال له:
أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم! قال: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم! ودخل عتبة بن أبي سفيان، فوسع له معاوية بينه وبين عقيل فجلس بينهما، فقال عقيل: من هذا الذي أجلس أمير المؤمنين بيني وبينه؟ قال: أخوك وابن عمك عتبة.
قال: أما إنه إن كان أقرب إليك مني، إني لأقرب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم منك ومنه، وأنتما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرض ونحن سماء. قال عتبة: أبا يزيد، أنت كما وصفت، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمير المؤمنين عالم بحقك، ولك عندنا مما تحب أكثر مما لنا عندك مما تكره.
ودخل عقيل على معاوية، فقال لأصحابه: هذا عقيل عمه أبو لهب! قال له عقيل، وهذا معاوية عمته حمّالة الحطب! ثم قال: يا معاوية، إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار، فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب؛ فانظر أيهما خير، الفاعل أو المفعول به.
وقال له يوما: ما أبين الشّبق «1» في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم أبين يا بني أمية! وقال له معاوية يوما: والله إنّ فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم. قال: وما هي؟ قال: لين فيكم. قال: لين ماذا؟ قال: هو ذاك «2» . قال: إيانا تعيّر يا معاوية؟
أجل، والله إن فينا للينا من غير ضعف، وعزا من غير جبروت؛ وأما أنتم يا بني أمية فإن لينكم غدر، وعزكم كفر، قال معاوية: ما كلّ هذا أردنا يا أبا يزيد. قال عقيل:
لذي اللّبّ «1» قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما
قال معاوية:
وإنّ سفاه الشيخ لا حلم بعده ... وإن الفتى بعد السّفاهة يحلم
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: لم جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:
إني آمرؤ مني التكرّم شيمة ... إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا
ثم قال: وآيم الله يا معاوية، لئن كانت الدنيا مهّدتك مهادها، وأظلتك بحذافيرها «2» ومدت عليك أطناب سلطانها- ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة، ولا تخشّعا لرهبة. قال معاوية نعتّها أبا يزيد نعتا هشّ لها قلبي؛ وإني لأرجو أن يكون الله تبارك وتعالى ما ردّاني برداء ملكها، وحباني بفضيلة عيشها، إلا لكرامة ادّخرها لي؛ وقد كان داود خليفة، وسليمان ملكا؛ وإنما هو المثال يحتذى عليه، والأمور أشباه؛ وايم الله يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريما، وإلينا حبيبا، وما أصبحت أضمر لك إساءة.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید