المنشورات

بين ابن عباس ومعاوية

: ابن الكلبي قال: أقبل معاوية يوما على ابن عباس فقال: لو وليتمونا ما أتيتم إلينا ما أتينا إليكم، من الترحيب والتقريب، وإعطائكم الجزيل، وإكرامكم على القليل، وصبري على ما صبرت عليه منكم، إني لا أرد أمرا إلا أظمأتم صدره «2» ولا آتي معروفا إلا صغّرتم خطره وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها؛ تقولون: قد نقص الحق دون الأمل! فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسرّ بإعطائها منه بأخذها؟ والله لئن انخدعت لكم في مالي وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي كرما وذلي حلما. ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف، ولا نسألكم أموالكم، لعلمنا بحالكم وحالنا؛ ويكون أبغضها إلينا أحبها إليكم أن نعفيكم.
فقال ابن عباس: لو ولينا أحسنّا المواساة، وما ابتلينا بالاثرة؛ «3» ثم لم نغشم الحي، ولم نشتم الميت؛ فلستم بأجود منا أكفا، ولا أكرم أنفسا، ولا أصون لأعراض المروءة؛ ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا، وأعطى في الحق منكم في الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى؛ والقسم بالسوية والعدل في الرعية يأتيان على المنى والأمل، ما أرضاكم منا بالكفاف، فلو رضيتم منا لم ترض أنفسنا به لكم؛ والكفاف رضا من لا حق له؛ فلا تبخلونا حتى تسألونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا.
أبو عثمان الحزامي قال: اجتمعت بنو هاشم عند معاوية، فأقبل عليهم فقال: يا بني هاشم، والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح؛ فلا يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بابي دونكم مسألة؛ ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرا مختلفا: إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم قلتم أعطانا دون حقنا، وقصّر بنا عن قدرنا؛ فصرت كالمسلوب، والمسلوب لا حمد له؛ وهذا مع إنصاف قائلكم، وإسعاف سائلكم.
قال: فأقبل عليه ابن عباس فقال: والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه، ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه؛ ولئن قطعت عنا خيرك لله أوسع منك ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفّنّ أنفسنا عنك، وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة، «1» وحق في الفيء؛ «2» فالغنيمة ما غلبنا عليه، والفيء ما اجتبيناه، ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خف ولا حافر.
كفاك أم أزيدك؟ قال: كفاني، فإنك تهرّ ولا تنبح.
وقال معاوية يوما وعنده ابن عباس: إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها، وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها، وبنو تيم بصدّيقها «3» وجوادها، وبنو عدي بفاروقها «4» ومتفكّرها، وبنو سهم بآرائها ودهائها، وبنو جمح بشرفها وأنوفها، وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها، «1» فمن ذا يجلى في مضمارها ويجري إلى غايتها؟ ما تقول يابن عباس؟
قال: أقول: ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم، إلا قريشا فإنهم يفخرون بالنبوّة التي لا يشاركون فيها ولا يساوون بها ولا يدفعون عنها، وأشهد أن الله لم يجعل محمدا من قريش إلا وقريش خير البرية، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم، يريد أن يفخر عليكم إلّا بما تفخرون به؛ إن بنا فتح الأمر وبنا يختم، ولك ملك معجّل ولنا ملك مؤجل، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید