المنشورات

ابن عباس وابن العاص

: أبو محنف قال: حج عمرو بن العاص فمرّ بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا ابن عباس، مالك إذا رأيتني ولّيتني القصرة، «2» وكان بين عينيك دبرة، وإذا كنت في ملأ من الناس كنت الهوهاة»
الهمزة.
فقال ابن عباس: لأنك من اللئام الفجرة! وقريش الكرام البررة لا ينطقون بباطل جهلوه، ولا يكتمون حقا علموه، وهم أعظم الناس أحلاما، وأرفع الناس أعلاما، دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في بني هاشم رحلك، ولا في بني عبد شمس راحلتك، فأنت الأثيم الزنيم، «4» الضال المضلّ، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحلمه، وتسمو بكرمه.
فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟
قال ابن عباس: حيث مال الحق ملنا، وحيث سلك قصدنا.
المدائني قال: قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أميّة، وتناول بني هاشم، وذكر مشاهده بصفّين، واجتمعت قريش، فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو، فقال.
يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية، وأعطيته ما بيدك، ومنّاك ما بيد غيره فكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، وكلّ راض بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصر في يدك كدّرها عليك بالعدل والتنقص، وذكرت مشاهدك بصفّين، فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك ولقد كشفت فيها عورتك، وإن كنت فيها لطويل اللسان، قصير السنان آخر الخيل إذا أقبلت، وأولها إذا أدبرت، لك يدان، يد لا تبسطها إلى خير، وأخرى لا تقبضها عن شر، ولسان غادر ذو وجهين، ووجهان وجه موحش ووجه مؤنس، ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحريّ أن يطول عليها ندمه، لك بيان وفيك خطل، «1» ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك.
فأجابه عمرو بن العاص: والله ما في قريش أثقل عليّ مسألة، ولا أمّر جوابا منك، ولو استطعت أن لا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية، ولكن بعت الله نفسي ولم أنس نصيبي من الدنيا، وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته، فإنه لا تعلّم العوان «2» الخمرة، وأما ما اتى إلى معاوية في مصر فإن ذلك لم يغيّرني له، وأما خفة وطأتي عليكم بصفين فلما استثقلتم حياتي، واستبطأتم وفاتي، وأما الجبن، فقد علمت فريش أني أول من يبارز، وآخر من ينازل وأما طول لساني فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
لساني طويل فاحترس من شذاته ... عليك وسيفي من لساني أطول «3»
وأما وجهاي ولساناي، فإني ألقي كلّ ذي قدر بقدره، وأرمي كلّ نابح بحجره، فمن عرف قدره كفاني نفسه، ومن جهل قدره كفيته نفسي، ولعمري ما لأحد من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية، فما ينفعني ذلك عندك. وأنشأ عمرو يقول:
بني هاشم مالي أراكم كأنكم ... بي اليوم جهال وليس بكم جهل
ألم تعلموا أني جسور على الوغى ... سريع إلى الدّاعي إذا كثر القتل
وأوّل من يدعو نزال طبيعة ... جبلت عليها والطّباع هو الجبل «1»
وأني فصلت الأمر بعد اشتباهه ... بدومة إذ أعيا على الحكم الفصل «2»
وأني لا أعيا بأمر أريده ... وأني إذا عجّت بكاركم فحل
محمد بن سعيد عن إبراهيم بن حويطب قال: قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباس بعد قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن هذا الأمر الذي نحن فيه وأنتم، ليس بأول أمر قاده البلاء، وقد بلغ الأمر بنا وبكم إلى ما ترى، أبقت لنا هذه الحرب حياء ولا صبرا، ولسنا نقول: ليت الحرب عادت! ولكنّا نقول: ليتها لم تكن كانت! فانظر فيما بقي بعين ما مضى؛ فإنك رأس هذا الأمر بعد عليّ، فإنك أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید