المنشورات

الحسين ومعاوية

: الشعبي قال: دخل الحسين بن عليّ يوما على معاوية ومعه مولى له يقال له ذكوان، وعند معاوية جماعة من قريش فيهم ابن الزبير، فرحب معاوية بالحسين وأجلسه على سريره، وقال: ترى هذا القاعد- يعني ابن الزبير- فإنه ليدركه الحسد لبني عبد مناف. 
فقال ابن الزبير لمعاوية: قد عرفنا فضل الحسين وقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لكن إن شئت أعلمك فضل الزبير على أبيك أبي سفيان فعلت، فتكلم ذكوان مولى الحسين بن علي فقال:
يا ابن الزبير، إن مولاي ما يمنعه من الكلام أن لا يكون طلق اللسان رابط الجنان؛ فإن نطق نطق بعلم؛ وإن صمت صمت بحلم؛ غير أنه كفّ «1» الكلام، وسبق إلى السنان، فأقرت بفضله الكرام؛ وأنا الذي أقول:
فيم الكلام لسابق في غاية ... والناس بين مقصّر ومبلّد «2»
إنّ الذي يجري ليدرك شأوه ... ينمي بغير مسوّد ومسدّد
بل كيف يدرك نور بدر ساطع ... خير الأنام وفرع آل محمد
فقال معاوية: صدق قولك يا ذكوان؛ أكثر الله في موالي الكرام مثلك.
فقال ابن الزبير: إن أبا عبد الله سكت وتكلم مولاه، ولو تكلم لأجبناه، أو لكففنا عن جوابه إجلالا له؛ ولا جواب لهذا العبد.
قال ذكوان: هذا العبد خير منك؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم» ؛ فأنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنت ابن العوام ابن خويلد؛ فنحن أكرم ولاء وأحسن فعلا.
قال ابن الزبير: إني لست أجيب هذا! فهات ما عندك.
فقال معاوية: قاتلك الله يابن الزبير. ما أعياك وأبغاك. أتفخر بين يدي أمير المؤمنين وأبي عبد الله؟ إنك أنت المتعدي لطورك «3» ، الذي لا تعرف قدرك؛ فقس شبرك بفترك؛ ثم تعرّف كيف تقع بين عرانين «4» بني عبد مناف؛ وأما والله لئن دفعت في بحور بني هاشم وبني عبد شمس لقطّعتك بأمواجها، ثم لترميّن بك في لججها؛ فما بقاءك في البحور إذا غمرتك، وفي الأمواج إذا بهزتك «1» ؟ هنالك تعرف نفسك؛ وتندم على ما كان من جرأتك، وتمسّي ما أصبحت فيه من أمان وقد حيل بين العير والنّزوان.
فأطرق ابن الزبير مليا ثم رفع رأسه فالتفت إلى من حوله، ثم قال أسألكم بالله:
أتعلمون أن أبي حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن أباه أبا سفيان حارب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأمه هند آكلة الأكباد؟ وجدي الصدّيق، وجده المشدوخ ببدر ورأس الكفر؟ وعمتي خديجة ذات الخطر والحسب، وعمته أم جميل حمالة الحطب؟ وجدتي صفية، وجدته حمامة؟ وزوج عمتي خير ولد آدم محمد صلّى الله عليه وسلم، وزوج عمته شر ولد آدم أبو لهب سيصلي نارا ذات لهب؟ وخالتي عائشة أم المؤمنين، وخالته أشقى الأشقين؟ وأنا عبد الله، وهو معاوية؟
وقال له معاوية: ويحك يابن الزبير كيف تصف نفسك بما وصفتها؟ والله مالك في القديم من رياسة، ولا في الحديث سياسة، ولقد قدناك وسدناك قديما وحديثا، لا تستطيع لذلك إنكارا، ولا عنه فرارا، وإن هؤلاء الحضور ليعلمون أن قريشا قد اجتمعت يوم الفخار على رياسة حرب بن أمية وأن أباك وأسرتك تحت رايته راضون بإمارته غير منكرين لفضله ولا طامعين في عزله، إن أمر أطاعوا، وإن قال أنصتوا، فلم تزل فينا القيادة وعزّ الولاية؛ حتى بعث الله عز وجل محمدا صلّى الله عليه وسلم، فانتخبه من خير خلقه، من أسرتي لا أسرتك، وبني أبي لابني أبيك، فجحدته قريش أشدّ الجحود؛ وأنكرته أشدّ الإنكار وجاهدته أشدّ الجهاد، إلا من عصم الله من قريش؛ فما ساد قريشا وقادهم إلا أبو سفيان بن حرب، فكانت الفئتان تلتقيان ورئيس الهدى منا ورئيس الضلالة منا؛ فمهديّكم تحت راية مهدّينا، وضالّكم تحت راية ضالّنا؛ فنحن الأرباب، وأنتم الأذناب؛ حتى خلّص الله أبا سفيان بن حرب بفضله من عظيم شركه؛ وعصمه بالإسلام من عبادة الأصنام؛ فكان ما لم يعط في الجاهلية عظيما شأنه، وفي الإسلام معروفا مكانه؛ ولقد أعطي يوم الفتح ما لم يعط أحد من آبائك، وإن منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم نادى: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ وكانت داره حرما، لا دارك ولا دار أبيك؛ وأما هند فكانت امرأة من قريش في الجاهلية عظيمة الخطر؛ وفي الإسلام كريمة الخبر، وأما جدك الصّديق فبتصديق عبد مناف سمى صديقا لا بتصديق عبد العزّى، وأما ما ذكرت من جدي المشدوخ ببدر، فلعمري لقد دعا إلى البراز هو وأخوه وابنه فلو برزت إليه أنت وأبوك ما بارزوكم ولا رأوكم لهم أكفاء، كما قد طلب ذلك غيركم فلم يقبلوهم، حتى برز إليهم أكفاؤهم من بني أبيهم، فقضى الله مناياهم بأيديهم فنحن قتلنا ونحن قتلنا. وما أنت وذاك؟ وأما عمتك أم المؤمنين فبنا شرفت وسميت أمّ المؤمنين، وخالتك عائشة مثل ذلك، وأما صفية فهي أدنتك من الظل، ولولا هي لكنت ضاحيا؛ وأمّا ما ذكرت من عمك وخال أبيك سيد الشهداء، فكذلك كانوا رحمهم الله، وفخرهم وإرثهم لي دونك، ولا فخر لك فيهم ولا إرث بينك وبينهم؛ وأمّا قولك: أنا عبد الله وهو معاوية، فقد علمت قريش أيّنا أجود في الإزم «1» ، وأحزم في القدم، وأمنع للحرم؛ لا والله ما أراك منتهيا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك، فقد طالبهم بالذّحول «2» وقدّم إليهم الخيول، وخدعتم أمّ المؤمنين ولم تراقبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ مددتم على نسائكم السّجوف «3» وأبرزتم زوجته للحتوف ومقارعة السيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربا فلم ينجه ذلك أن طحنه أبو الحسين بكلكله طحن الحصيد بأيدي العبيد، وأمّا أنت فأفلتّ بعد أن خمشتك براثينه ونالتك مخاليبه، وايم الله ليقوّمنّك بنو عبد مناف بثقافها، أو لتصبحنّ منها صباح أبيك بوادي السّباع، وما كان أبوك المرهوب جانبه، ولكنه كما قال الشاعر:
أكيلة سرحان فريسة ضيغم ... فقضقضه بالكفّ منه وحطّما «4»











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید