المنشورات

خطب أبي بكر

وخطب أبو بكر يوم السقيفة: أراد عمر الكلام، فقال له أبو بكر: على رسلك.
ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، نحن المهاجرون، أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسّهم رحما برسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ أسلمنا قبلكم، وقدّمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ
«1» ؛ فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدوّ؛ آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله.
وخطب أيضا. حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني؛ أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إنّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القويّ حتى آخذ الحق منه! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وخطب أخرى. فلما حمد الله بما هو أهله، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام، قال:
إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك! فرفع الناس رءوسهم، فقال:
ما لكم أيها الناس؟ إنكم لطعانون عجلون، إن من الملوك من إذا ملك زهّده الله فيما بيده، ورغّبه فيما بيد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويسخط على الكثير، ويسأم الرخاء وتنقطع عنده لذة البهاء، لا يستعمل العبرة، ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسيّ «1» والسراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه، ونصب عمره، وضحا ظله، حاسبه الله، فأشدّ حسابه، وأقلّ عفوه. ألا وإن الفقراء هم المرحومون! ألا إن من آمن بالله حكم بكتابه وسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة نبوة، ومفرق محجة، وسترون بعدي ملكا عضوضا، «2» وملكا عنودا، وأمة شعاعا، ودما مباحا؛ فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر، ويموت لها الخبر، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن واعتصموا بالطاعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر، أي بلاد خرشنة «3» إن الله سيفتح لكم أقصاها كما فتح عليكم أدناها.
وخطب أيضا فقال:
الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأومن به، وأتوكل عليه وأستهدي الله بالهدى، وأعوذ به من الضلالة والردى، ومن الشك والعمى؛ من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون- إلى الناس كافة، رحمة لهم وحجة عليهم، والناس حينئذ على شر حال في ظلمات الجاهلية، دينهم بدعة، ودعوتهم فرية، فأعز الله الدين بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وألف بين قلوبكم أيها المؤمنون، فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم عى شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون؛ فأطيعوا الله ورسوله، فإنه قال عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
«4» .
أما بعد أيها الناس: إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حال ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم؛ فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر؛ وما فخر من خلق من تراب وإلى التراب يعود، هو اليوم حي وغدا ميّت! فاعلموا وعدوّا أنفسكم في الموتى، وما أشكل عليكم فردّوا علمه إلى الله، وقدّموا لأنفسكم خيرا تجدوه محضرا، فإنه قال عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ
«1» فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لا بدّ من لقاء ربكم والجزاء بأعمالكم، صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله، إنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
«2» اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، أفضل ما صليت على أحد من خلقك؛ وزكّنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه اللهم أعنّا على طاعتك، وانصرنا على عدوّك.
وخطب أيضا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة؛ فإن الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ
«3» ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، وعوّضكم بالقليل الفاني الكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فثقوا بقوله، وانتصحوا كتابه واستبصروا فيه ليوم الظلمة، فإنه خلقكم لعبادته، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون. ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم أن [لا] تنقضي الآجال [إلا] وأنتم في عمل لله [فافعلوا] ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله- فسابقوا في مهل بأعمالكم، قبل أن تنقضي آجالكم فتردّكم إلى سوء أعمالكم، فإن أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم [ونسوا أنفسهم] ، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم؛ فالوحي الوحي والنجاء النجاء «1» ، فإن وراءكم طالبا حثيثا مرّه، سريعا سيره.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید