المنشورات

خطب معاوية

قال القحذمي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقّاه رجال قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلى كعبك. قال: فوالله ما ردّ عليهم شيئا حتى صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرّة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة، ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارا شديدا؛ وأردتها مثل ثنيّات «1» عثمان، فأبت عليّ؛ فسلكت بها طريق لي ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة؛ فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفى به القائل بلسانه، فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي؛ وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه، فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا زاد عنّى، وإذا قلّ أغنى «2» ؛ وإياكم والفتنة، فإنها تفسد المعيشة، وتكدّر النعمة. ثم نزل.
خطبة أيضا لمعاوية
حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
أما بعد، أيها الناس، إنا قدمنا عليكم، وإنما قدمنا على صديق مستبشر، أو على عدو مستتر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ
«3» ولست واسعا كلّ الناس؛ فإن كانت محمدة فلا بدّ من مذمة، فلونا هونا إذا ذكر غفر؛ وإياكم والتي إن أخفيت أو بقت، وإن ذكرت أوثقت. ثم نزل.
وخطبة أيضا لمعاوية
صعد منبر المدينة، فحمد الله وأثنى، ثم قال:
يا أهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق؛ يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرىء منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شرّ لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى فالرّتق خير من الفتق، وفي كلّ بلاغ، ولا مقام على الرزية.
وخطبة لمعاوية أيضا
قال العتبي: خطب معاوية الجمعة في يوم صائف شديد الحر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
إن الله عز وجل خلقكم فلم ينسكم، ووعظكم فلم يهملكم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
«1» . قوموا إلى صلاتكم.
ومما ذكر لعبيد الله بن زياد عند معاوية
قال ابن دأب: لما قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهيا عنه أنكره، فجعل يتصدّى له بخلوة ليسبر من رأيه ما كره أن يشرك به عمله، فاستأذن عليه بعد انصداع الطّلاب وإشغال «2» الخاصة وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه، ففطن معاوية لما أراد، فبعث إلى ابنه يزيد، وإلى مروان بن الحكم، وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص، فلما أخذوا مجالسهم أذن له، فسلم ووقف واجما يتصفح وجوه القوم، ثم قال:
صريح العقوق مكاتمة الأدنين، لا خير في اختصاص وإن وفر «3» ، أحمد الله إليكم على الآلاء «4» ، وأستعينه على اللأواء»
، وأستهديه من عمى مجهد، وأستعينه على عدو مرصد، وأشهد أن لا إله إلا الله المنقذ بالأمين الصادق من شقاء هاو، ومن غواية غاو، وصلوات الله على الزكي، نبيّ الرحمة، ونذير الأمّة، وقائد الهدى؛ أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فقد عسف بنا ظنّ فرّع «6» ، وفزع صدّع، حتى طمع السحيق، وبئس الرفيق، ودب الوشاة بموت زياد، فكلهم متحفّز للعداوة، وقد قلّص الإزرة «1» ، وشمّر عن عطافه «2» ، ليقول؛ مضى زياد بما استلحق به، وولّى على الدنية من مستلحقه. فليت أمير المؤمنين سلم في دعته، وأسلم زيادا في ضعته، فكان ترب عامّته، وواحد رعيّته، فلا تشخص إليه عين ناظر ولا أصبع مشير، ولا تذلق «3» عليه ألسن كلمته حيا ونبشته ميتا، فإن تكن يا أمير المؤمنين حاببت زيادا بولاء رفات، ودعوة أموات، فقد حاباك زياد بجدّ هصور وعزم جسور، حتى لانت شكائم الشّرس، وذلت صعبة الأشوس، وبذل لك يا أمير المؤمنين يمينه ويساره، تأخذ بهما المنيع، وتقهر بهما البزيع «4» ، حتى مضى والله يغفر له؛ فإن يكن زياد أخذ بحق فأنزلنا منازل الأقربين يا أمير المؤمنين نمشي الضّرّاء «5» وندبّ الخفاء «6» ، ولنا من خيرك أكمله، وعليك من حوبنا «7» أثقله، وقد شهد القوم، وما ساءني قربهم ليقرّوا حقا، ويردّوا باطلا؛ فإنّ للحقّ منارا واضحا، وسبيلا قصدا؛ فقل يا أمير المؤمنين بأي أمريك شئت، فما نأرز «8» إلى غير جحرنا، ولا نستكثر بغير حقنا، وأستغفر الله لي ولكم.
قال: فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفّحهم بلحظه رجلا رجلا وهو متبسم، ثم اتجه تلقاءه وعقد حبوته وحسر عن يده وجعل يوميء بها نحوه، ثم قال معاوية:
الحمد لله على ما نحن فيه؛ فكل خير منه، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ فكل شيء خاضع له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، دلّ على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يأتوا بمثله، فهو خاتم النبيين، ومصدّق المرسلين، وحجة رب العالمين، صلوات الله عليه وسلامه وبركاته، أمّا بعد، فرب خير مستور، وشر مذكور، وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به، والحظ المرغب لمن فاز به، فيهما التفاضل، وفيهما التغابن، وقد صفقت يداي في أبيك صفقة «1» ذي الخلة من ضوارع «2» الفصلان، عامل اصطناعي له بالكفر لما أوليته، فما رميت به إلا انتصل «3» ، ولا انتضيته إلا غلّق جفنه، وزلّت شفرته، ولا قلت إلا عاند، ولا قمت إلا قعد، حتى اخترمه الموت، وقد أوقع بختره «4» ، ودل على حقده، وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، والتبس به الزلل، فأخذ مني بحظ الغفلة، وما أبريء نفسي، إنّ النفس لأمّارة بالسوء؛ فما برحت هناة أبيك تحطب في جبل القطيعة حتى انتكث المبرم. وانحل عقد الوداد. فيا لها توبة تؤتنف من حوبة «5» أورثت ندما أسمع بها الهاتف وشاعت للشامت؛ فليهنأ الواصم «6» ما به احتقر؛ وأراك تحمد من أبيك جدا وجسورا: هما أوفيا به على شرف التقحم. وغمط النعمة؛ فدعهما فقد أذكرتنا منه ما زهّدنا فيك من بعده، وبهما مشيت الضرّاء ودببت الخفاء؛ فاذهب إليك، فأنت نجل الدّغل «7» ، وعترة النّغل؛ والأخر شرّ.
فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنّ للشاهد غير حكم الغائب، وقد حضرك زياد، وله مواطن معدودة بخير، لا يفسدها التظنّي ولا تغّيرها التهم، وأهلوه أهلوك التحقوا بك، وتوسطوا شأنك، فسافرت به الرّكبان، وسمعت به أهل البلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشك فيه العالم، فلا يتحجّر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكثرت فيه الشهادات، وأعانك عليه قوم آخرون.
فانحرف معاوية إلى من معه فقال: هذا، وقد نفس عليه «8» ببيعته، وطعن في إمرته، يعلم ذلك كما أعلمه؛ يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا وبذّهم يزيد وحده.
ثم نظر إلى عبيد الله فقال: يا ابن أخي، إني لأعرف بك من أبيك، وكأني بك في غمرة لا يخطوها السابح؛ فالزم ابن عمك، فإنّ لما قال حقا.
فخرجوا، ولزم عبيد الله يزيد يرد مجلسه ويطأ عقبه أياما، حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليا عليها. ثم لم تزل توكسه أفعاله حتى قتله الله بالخازر «1» .
وخطبة لمعاوية أيضا
قال الهيثم بن عدي: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا بمسلم بن عقبة المرّي، والضحاك بن قيس الفهري، وقال لهما: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر أهل الحجاز فهم عصابتك وعترتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومن قعد عنك فتعاهده؛ وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله عنهم، فإن عزل عامل واحد أهون عليك من سلّ مائة ألف سيف، ثم لا ندري علام أنت عليه منهم؛ ثم انظر أهل الشام، فاجعلهم الشعار دون الدّثار، فإن رابك من عدوّ ريب فارمه بهم فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم، لا يقيموا في غير بلادهم فيتأدبوا بغير آدابهم؛ ولست أخاف عليك غير عبد لله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. والحسين بن علي؛ فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه «2» الورع، وأما الحسين فأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه وأما ابن الزبير فإنه خب ضب «3» ، فإن ظفرت به فقطعه إربا إربا.
ومات معاوية؛ فقام الضحاك بن قيس خطيبا فقال:
إن أمير المؤمنين كان أنف العرب، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومخلّون بينه وبين ربه: فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضر.
وصلى عليه الضحاك. ثم قدم يزيد؛ فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام فأنشأ يقول:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا
لارزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أهل الدين كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... أمّا نعيت فلا يسمع بمنعاكا
قال فانفتح الخطباء بالكلام.
وخطبة أيضا لمعاوية
ولما مرض معاوية مرض وفاته قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك! قال: ويحك! لم؟ فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم وأذن للناس فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه وأوجز، ثم قال:
أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم فيه عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوّف قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده، ونضيض وفره؛ ومنهم المصلت لسيفه، المجلب برجله، المعلن بشرّه؛ قد أشرط «1» نفسه، وأوبق دينه «2» : لحطام ينتهزه، أو مقنب «3» يقوده، أو منبر يفرعه «4» ؛ ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا- ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا؛ قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر عن ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية؛ ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن أمله؛ فتحلى باسم القناعة، وتزيّا بلباس الزهادة؛ وليس من ذلك في مراح ولا مغدى؛ وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المضج؛ فهم بين شريد باد، وبين خائف منقمع وساكت مكعوم «1» ، وداع مخلص، وموجع ثكلان؛ قد أخملتهم التّقيّة، وشملتهم الذلة؛ فهم في بحر أجاج؛ أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة؛ قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا؛ وقتلوا حتى قلّوا؛ فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ «2» ، وقراضة الجلمين؛ واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فقد رفضت من كان أشغف بها منكم.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید