المنشورات

خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه

قال العتبي: أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، وأصلحوا آخرتكم تصلح دنياكم، وإن امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق في الموت.
وخطبة له رحمه الله
وإن لكل سفر زادا لا محالة. فتزودوا [لسفركم] من دنياكم لآخرتكم التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فرهبوا ورغبوا. ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم. فإنه ما بسط أمل من لا يدري لعله لا بصبح بعد إمسائه أو يمسي بعد إصباحه. وربما كانت بين ذلك خطرات المنايا، وإنما يطمئن إلى الدنيا من أمن عواقبها. فإنّ من يداوي من الدنيا كلما أصابته جراحة من ناحية أخرى، فكيف يطمئن إليها؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي؛ فنخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق.
ثم بكى وبكى الناس معه.
خطبة لعمر بن عبد العزيز أيضا
شبيب بن شيبة عن أبي عبد الملك قال كنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فكنا نقوم لهم ونبدؤهم بالسلام؛ فخرج علينا عمر رضي الله عنه في يوم عيد وعليه قميص كتان وعمامة على قلنسوة لاطئة «1» ، فمثلنا بين يديه وسلمنا عليه، فقال: مه! أنتم جماعة وأنا واحد؛ السلام عليّ والردّ عليكم، وسلم، فرددنا، وقرّبت له دابته، فأعرض عنها، ومشى ومشينا حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: وددت أنّ أغنياء الناس اجتمعوا فردّوا على فقرائهم، حتى نستوي نحن بهم، وأكون أنا أولهم. ثم قال: مالي وللدنيا؟ أم مالي ولها وتكلم فأرقّ حتى بكى الناس جميعا يمينا وشمالا، ثم قطع كلامه ونزل؛ فدنا منه رجاء بن حيوة فقال له: يا أمير المؤمنين، كلمت الناس بما أرقّ قلوبهم وأبكاهم، ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه؛ فقال: يا رجاء، اني أكره المباهاة.
خطبة عبد الله بن الأهتم بين يدي عمر بن عبد العزيز
ودخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز مع العامة، فلم يفجأ إلا وهو قائم بين يديه يتكلم؛ فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أما بعد، فإن الله خلق الخلق غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم؛ والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشر تلك المنازل؛ أهل الوبر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاهة عيشها؛ ميّتهم في النار وحيهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه والمزهود فيه؛ فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، بعث إليهم رسولا منهم عزيزا عليه ما عنتوا حريصا عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم؛ فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق، لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار؛ فلما أمر بالعزيمة أسفر لأمر الله لونه، فأفلج الله حجته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته. وفارق الدنيا تقيا صلّى الله عليه وسلم.
ثم قام من بعده أبو بكر رضي الله عنه، فسلك سنّته وأخذ سبيله؛ وارتدّت العرب فلم يقبل منهم إلا الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبله؛ فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران في شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الباب الذي خرجوا منه، وقرّرهم بالأمر الذي نفروا منه؛ وقد كان أصاب من مال الله بكرا «1» يرتوي عليه. وحبشية ترضع ولدا له؛ فرأى ذلك غصّة في حلقه عند موته، وثقلا على كاهله، فأدّاه إلى الخليفة من بعده وبريء إليهم منه، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه.
ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فمصر الأمصار، وخلط الشدة باللين، وحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، واعد للأمور أقرانها وللحرب آلتها، فلما أصابه قنّ «1» المغيرة بن شعبة، أمر ابن العباس أن يسأل الناس هل يثبتون قاتله؟
فلما قيل له قنّ المغيرة استهل «2» بحمد الله أن لا يكون أصابه من له حق في الفيء، فيستحل دمه بما استحل من حقه؛ وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثمانين ألفا فكسر بها رباعه «3» ، وكره بها كفالة أهله وولده، فأدّى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه.
ثم إنّا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوج، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها، فلما وليتها ألقيتها وأحببت لقاء الله وما عنده؛ فالحمد لله الذي جلا بك حوبتنا، وكشف بك كربتنا. امض ولا تلتفت، فإنه لا يغني عن الحق شيء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين وللمؤمنات.
ولما قال: ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوع. سكت الناس كلهم غير هشام، فإنه قال: كذبت!
وخطبة أيضا لعمر بن عبد العزيز
قال أبو الحسن: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة «4» خطبة لم يخطب بعدها حتى مات، رحمه الله. حمد الله وأثني عليه، ثم قال:
أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى؛ وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف اليوم وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلّفها من بعدكم الباقون [كذلك] حتى تردوا إلى خير الوارثين؛ ثم إنكم في كل يوم تشيّعون غاديا ورائحا إلى الله، قد قضى نحبه، وبلغ أجله، ثم تغيّبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسّد ولا ممهّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب وواجه الحساب، [مرتهنا بعمله] ، غنيا عما ترك، فقيرا إلى ما قدّم؛ وايم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم [من الذنوب] أكثر مما عندي، فأستغر الله لي ولكم، وما تبلغنا [عن أحد منكم] حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا ووددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم؛ وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه؛ ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى عن معصيته.
ثم بكى، فتلقى دموع عينيه بردائه؛ فلم ير بعدها على تلك الأعواد حتى قبضه الله تعالى.
خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد
بقيّ بن مخلد قال: حدّثني خليفة بن خياط، قال: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال:
حدّثني إبراهيم بن إسحق أن يزيد بن الوليد لما قتل الوليد بن يزيد قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، إني ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك؛ وما بي إطراء نفسي ولا تزكية عملي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى كتابه وسنة نبيه، حين درست «1» معالم الهدى، وطفيء نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحيل الحرمة، والراكب البدعة والمغيّر السنة، فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقتلع، على كثير من ذنوبكم وقسوة من قلوبكم. وأشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه، فيجيبه من أجابه منكم؛ فاستخرت الله في أمري، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي؛ وهو ابن عمي في نسبي، وكفئي في حسبي؛ فأراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، ولاية من الله وعونا بلا حول منا ولا قوة، ولكن بحول الله وقوته وولايته وعونه.
أيها الناس. إن لكم عليّ إن وليت أموركم أن لا أضع لبنة على لبنة ولا حجرا على حجر، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد فقره [وخصاصة أهله] ، وأقيم مصالحه، بما يحتاجون إليه ويقوون به؛ فإن فضل شيء رددته إلى البلد الذي يليه وهو من أحوج البلدان إليه، حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين وتكونوا فيه سواء، ولا أجمّركم «1» في بعوثكم فتفتقدوا وتفتتن أهاليكم؛ فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم؛ وإن رأيتم أحدا أقوى عليها مني فأردتم بيعته، فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید