المنشورات

خطبة المأمون في الفطر

قال بعد التكبير ولتحميد: ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنّة، وابتهال ورغبة، يوم ختم الله به صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله [خاتمة الشهر، و] أول أيام شهور الحج، وجعله معقّبا لمفروض صيامكم، ومتنفّل قيامكم، أحلّ الله لكم في الطعام، وحرم عليكم فيه الصيام، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه بتفريطكم. فإنه يقال: لا كبير مع ندم واستغفار، ولا صغير مع تماد وإصرار. 
ثم كبّر وحمد وذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأوصى بالبر والتقوى، ثم قال:
اتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم ولم يحضر الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عثرة، ولا تحظر قبله توبة؛ واعلموا أنه لا شيء [قبله إلا دونه، ولا شيء] بعده إلا فوقه: ولا يعين على جزعه وعلزه «1» وكربة، وعلى القبر وظلمته ووحشته وضيقه وهول مطلعه ومسألة ملكيه- إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يقبل منه؛ فالله الله عباد الله، كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم، إلا هذا الأجل المبسوط لكم؛ فاحذروا ما حذركم الله فيه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به وما يملي في صحيفته الحافظة لما عليه وله؛ فقد حكى الله لكم ما قال المفرّطون عندما طال إعراضهم عنها؛ قال جل ذكره: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
«2» . وقال: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ
«3» ! ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذّر منها وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها، ذمّ كتاب الله لها والنهي عنها؛ فإنه يقول تبارك وتعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
«4» . وقال: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
«5» . فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها وأدركوا الجنة بما يتركون منها.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید