المنشورات

خطبة للامام علي كرم الله وجهه

جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال: يا أمير المؤمنين، صف لنا ربنا، لنزداد له محبة، وبه معرفة. فغضب عليّ كرّم الله وجهه، ثم نادى: الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس إليه حتى غص المسجد بأهله؛ ثم صعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم صلى على النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
والحمد لله الذي لا يفره المنع، ولا يكديه الإعطاء، بل كل معط ينقص سواه؛ هو المنان بفرائد النعم، وعوائد المزيد؛ وبجوده ضمنت عياله «1» الخلق، ونهج سبيل الطلب للراغبين إليه، وليس بما يسأل أجود منه بما لا يسأل، وما اختلف عليه دهر فتختلف فيه حال، ولو وهب ما انشقت عنه معادن الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، من فلزّ اللجين «2» ، وسبائك العقيان، وشذر الدر «3» ، وحصيد المرجان- لبعض عباده- ما أثر ذلك في ملكه ولا في جوده ولا أنفذ ذلك سعة ما عنده، فعنده من الأفضال ما لا ينفده مطلب وسؤال، ولا يخطر لكم على بال؛ لأنه الجواد الذي لا ينقصه المواهب، ولا يبرمه إلحاح الملحين بالحوائج وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، فما ظنّكم بمن هو كذا ولا هكذا غيره، سبحانه وبحمده.
أيها السائل، أعقل ما سألتني عنه «4» ، ولا تسأل أحدا بعدي؛ فإني أكفيك مئونة الطلب، وشدة التعمق في المذهب؛ وكيف يوصف الذي سألتني عنه، وهو الذي عجزت الملائكة على قربهم من كرسي كرامته، وطول ولهم إليه، وتعظيمهم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوته- أن يعلموا من علمه إلّا ما علمهم، وهو من ملكوت العرش بحيث هم من معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. فمدح الله اعترافهم بالعجز عما لم يحيطوا به علما، وسمّي تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه رسوخا؛ فاقتصر على هذا ولا تقدّر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين؛ واعلم أن الله الذي لم يحدث فيمكن فيه التغير والانتقال، ولم يتغير في ذاته بمرور الأحوال. ولم يختلف على تعاقب الأيام والليالي- هو الذي خلق الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه من خالق كان قبله. بل أرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ربوبيته مما نطقت به آثار حكمته، واضطرار الحاجة من الخلق إلى أن يفهمهم مبلغ قوّته- ما دلنا بقيام الحجة له بذلك علينا على معرفته.
ولم تحط به الصفات بإدراكها إياه بالحدود متناهيا، وما زال إذ هو الله الذي ليس كمثله شيء عن صفة المخلوقين متعاليا، انحسرت العيون عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا، وبالذات التي لا يعلمها إلا هو عند خلقه معروفا؛ وفات لعوّه عن الأشياء مواقع وهم المتوهمين؛ وليس له مثل فيكون بالخلق مشبها، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأنداد منزّها، وكيف يكون من لا يقدر قدره مقدرا في رويّات الأوهام، وقد ضل في إدراك كيفيته حواسّ الأنام: لأنه أجل من أن تحدّه ألباب البشر بنظير، فسبحانه وتعالى عن جهل المخلوقين وسبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين «1» .
ألا وإن لله ملائكة صلّى الله عليه وسلم. لو أن ملكا هبط منهم إلى الأرض لما وسعته لعظم خلقه وكثرة أجنحته؛ ومن ملائكته من سد الآفاق بجناح من أجنحته دون سائر بدنه؛ ومن ملائكته من السموات إلى حجزته «2» وسائر بدنه في جرم الهوام الأسفل، والأرضون إلى ركبته ومن ملائكته من لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يصفوه ما وصفوه، لبعد ما بين مفاصله، ولحسن تركيب صورته؛ وكيف يوصف من سبعمائة عام مقدار ما بين منكبيه إلى شحمة أذنيه؟ ومن ملائكته من لو ألقيت السّفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين؛ فأين أين بأحدكم؟ وأين أين أن يدرك ما لا يدرك؟












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید