المنشورات

[خطب زياد]

خطبة زياد البتراء
قال أبو الحسن المدائني عن مسلمة بن محارب عن أبي بكر الهذلي قال: قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان وضم إليه خراسان وسجستان؛ والفسق بالبصرة ظاهر فاش. فخطب خطبة بتراء، لم يحمد الله فيها؛ وقال غيره بل قال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا.
أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والعمى الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير؛ كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا بما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب العظيم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول.
أتكونون كمن طرفت «1» عينيه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من تركتكم هذه المواخير «2» المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل. ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج «3» الليل وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة، وباعدتم الدّين؛ تعتذرون بغير العذر؛ وتغضون على المختلس؛ كلّ امريء منكم يذبّ عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا؛ ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا «4» وراءكم، كنوسا في مكانس «5» الرّيب؛ حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا.
إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله،: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم؛ حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد! أو تستقيم لي قناتكم. إنّ كذبة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي. من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له؛ فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم؛ وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا لم تكم وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنّاه فيه حيا. فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم، أكفّ يدي ولساني؛ ولا يظهرنّ من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامّتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين قوم إحن»
فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي؛ فمن كان محسنا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته؛ إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلّ من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته. فإن فعل ذلك لم أنظره؛ فاستأنفوا أموركم، واستعينوا على أنفسكم؛ فرب مبتئس بقدومنا سيسرّ؛ ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس: إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة؛ نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بقيء الله الذي خوّلنا؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا؛ ولكم علينا العدل فيما ولينا؛ فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا؛ واعلموا أني مهما أقصّر عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقا بلبل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبّانه، ولا مجمّرا لكم بعثا؛ فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدّبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون؛ ومتى يصلحوا تصلحوا؛ ولا تشربوا قلوبكم بغضهم؛ فيشتد لذلك أسفكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم؛ مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم.
أسأل الله أن يعين كلا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم أمرا فأنفذوه على أذلاله «1» ، وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي. ثم نزل.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم، فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب! قال له: كذبت! ذاك داود صلّى الله عليه وسلم.
فقام الأحنف بن قيس فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلي. قال له زياد: صدقت! فقام أبو بلال [مرداس بن أديّة] وهو يهمس ويقول: أنبأنا الله تعالى بخلاف ما قلت؛ قال الله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى
«2» . فسمعها زياد، فقال: إنا لا نبلغ من أصحابك ما تريد حتى نخوض إليهم الباطل خوضا.
وخطبة لزياد
استوصوا بثلاث منكم خيرا: الشريف، والعالم، والشيخ، فوالله لا يأتيني شيخ بحدث استخفّ به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالم بجاهل استخفّ به إلا أثكلت به ولا يأتيني شريف بوضيع استخفّ به إلا ضربته.
وخطبة لزياد
خطب زياد على المنبر فقال:
أيها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تستمعون منا، فإن الشاعر يقول:
اعمل بقولي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري
وخطبة لزياد
العتبي قال: لما شهدت الشهود لزياد قام في أعقابهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهدت الشهود بما سمعتم، فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيّعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو كافل مشكور.
خطبة لجامع المحاربي
وكان شيخا صالحا خطيبا لسنا، وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط:
بنيتها في غير بلدك، وأورثتها غير ولدك! وشكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق ونقم «1» مذهبهم وتسخّط طريقتهم، فقال له جامع: أما إنهم لو أحبّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك «1» لنسبك، ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.
قال الحجاج: إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف! قال له:
أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج: الخيار يومئذ لله.
قال: أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله. وغضب الحجاج فقال: يا هناه، إنك من محارب. فقال جامع:
وللحرب سمّينا وكنّا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا
والبيت للخضري. قال الحجاج: والله لقد هممت أن أقطع لسانك فأضرب به وجهك! قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله! قال: أجل.
وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع «2» ، فمر بين صفوف خيل الشام حتى جاوز إلى خيل أهل العراق- وكان الحجاج لا يخلطهم- فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق، وتميم العراق، وأزد العراق؛ فلما رأوه اشرأبّوا «3» إليه وبلغهم خروجه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك! فقال: ويحكم! عمّوه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التّعادي ما عداكم، فإذا ظفرتم [به] تراجعتم وتعاقبتم. أيها التميمي، هو أعدى لك من الأزدي؛ وأيها القيسي، هو أعدى لك من التّغلبيّ؛ وليس يظفر بمن ناوأه منك إلا بمن بقي معه.
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید