المنشورات

كتاب المجنّبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور واخبار الكتبة

فرش الكتاب
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الخطب وفضائلها وذكر طوالها وقصارها، ومقامات أهلها؛ ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في التوقيعات، والفصول، والصدور، وأدوات الكتابة، وأخبار الكتاب، وفضل الإيجاز؛ إذ كان أشرف الكلام كلّه حسنا وأرفعه قدرا، وأعظمه من القلوب موقعا، وأقلّه على اللسان عملا: ما دل بعضه على كله، وكفى قليله عن كثيره، وشهد ظاهره على باطنه، وذلك أن تقلّ حروفه وتكثر معانيه؛ ومنه قولهم: ربّ إشارة أبلغ من لفظ.
أليس أن الإشارة تبين ما لا يبينه الكلام، وتبلغ ما يقصر عنه اللسان؟ ولكنها إذا قامت مقام اللفظ وسدت مسدّ الكلام، كانت أبلغ؛ لخفة مؤنتها، وقلة محملها.
قال ابرويز لكاتبه: اجمع الكثير مما تريد من المعنى، في القليل مما تقول. يحضّه على الإيجاز. وينهاه عن الإكثار في كتبه، ألا تراهم كيف طعنوا على الإسهاب والإكثار، حتى كان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من الإسهاب؛ قيل له: وما الإسهاب؟ قال: المسهب الذي يتخلل بلسانه تخلّل الباقر «1» ، ويشول به شولان الروق «2» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أبغضكم إليّ الثرثارون المتشدقون» يريد: أهل الإكثار والتقعير في الكلام.
العرب والإيجاز:
ولم أجد أحدا من السلف يذمّ الإيجاز ويقدح فيه، ولا يعيبه ويطعن عليه وتحب العرب التخفيف والحذف، ولهربها من التثقيل والتطويل، كان قصر الممدود أحب إليها من مدّ المقصور، وتسكين المتحرك أخفّ عليها من تحريك الساكن لأن الحركة عمل والسكون راحة.
ومن كلام العرب الاختصار والإطناب، والاختصار عندهم أحمد في الجملة، وإن كان للإطناب موضع لا يصلح إلا له، وقد توميء إلى الشيء فتستغني عن التفسير بالإيماء، كما قالوا: لمحة دالّة.
جعفر وكتابه لابن مسعدة:
كتب عمرو بن مسعدة إلى ضمرة الحروري كتابا، فنظر فيه جعفر بن يحيى فوقع في ظهره؛ إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيّا.
مروان وكتاب لقائد:
وبعث إلى مروان بن محمد قائد من قواده بغلام أسود، فأمر عبد الحميد الكاتب أن يكتب إليه يلحاه «1» ويعنفه، فكتب وأكثر، فاستثقل ذلك مروان، وأخذ الكتاب فوقع في أسفله: أما إنك لو علمت عددا أقل من واحد، ولونا شرّا من أسود، لبعثت به.
ربيعة الرأي وأعرابي:
وتكلم ربيعة الرأي فأكثر، وأعجبه إكثاره، فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه فقال له:
ما تعدون البلاغة عندكم يا أعرابي؟ قال له: حذف الكلام، وإيجاز الصواب. قال: فما تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم! فكأنما القمه حجرا











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید