المنشورات

صفات الكاتب:

ولا يكون الكاتب كاتبا حتى لا يستطيع أحد تأخير أوّل كتابه وتقديم آخره.
وأفضل الكتاب ما كان في أول كتابه دليل على حاجته، كما أن أفضل الأبيات ما دل أول البيت على قافيته؛ فلا تطيلنّ صدر كتابك إطالة تخرجه عن حدّه، ولا تقصر به دون حدّه؛ فإنهم قد كرهوا في الجملة أن تزيد صدور كتب الملوك على سطرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك.
وقيل للشعبي: أي شيء تعرف به عقل الرجل؟ قال: إذا كتب فأجاد.
وقال الحسن بن وهب: الكاتب نفس واحدة، تجزأت في أبدان متفرقة.
فأمّا الكاتب المستحقّ اسم الكتابة، والبليغ المحكوم له بالبلاغة، من إذا حاول صيغة كتاب، سالت عن قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت معادنها وندرت من مواطنها من غير استكراه ولا اغتصاب.
بين العتابي وصديق له:
بلغني أن صديقا لكلثوم العتابي أتاه يوما فقال له: اصنع لي رسالة. فاستمد مدة ثم علق القلم؛ فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردة عنك. فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت عليّ المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه؛ ثم أجتني لك أحسنّها.
بين يزيد وكاتب له:
قال أحمد بن محمد: كنت عند يزيد بن عبد الله أخي ذبيان، وهو يملي على كاتب له؛ فأعجل الكاتب ودارك في الإملاء عليه، فتلجلج لسان قلم الكاتب عن تقييد إملائه؛ فقال له: اكتب يا حمار! فقال له الكاتب: أصلح الله الأمير، إنه لما هطلت شآبيب الكلام، وتدافعت سيوله على حرف القلم، كلّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده. فكان حضور جواب الكاتب أبلغ من بلاغة يزيد.
وقال له يوما وقد مط حرفا في غير موضعه: ما هذا؟ قال: طغيان في القلم.
ما يحتاج إليه الكاتب:
فإن كان لابد لك من طلب أدوات الكتابة، فتصفح من رسائل المتقدمين ما يعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما يرجع إليه، ومن نوادر الكلام ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسمار ما يتسع به منطقك، ويطول به قلمك؛ وانظر في كتب المقامات والخطب، ومجاوبة العرب، ومعالى العجم، وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم، وسيرهم، ووقائعهم، ومكايدهم في حروبهم بعد أن تكون متوسطا علم النحو والغريب، والوثائق والسور، وكتب السجلات والأمانات؛ لتكون ماهرا، تنتزع آي القرآن في مواضعها؛ واختلاف الأمثال في أماكنها؛ وقرض الشعر الجيد وعلم العروض؛ فإن تضمين المثل السائر، والبيت الغابر البارع، مما يزين كتابك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكا جليل القدر فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء عيب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له، فإن ذلك يزيد في أبّهته.
خبر حائك الكلام
أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال: لما رجع المعتصم من الثغر وصار بناحية الرقة، قال لعمرو بن مسعدة: ما زلت تسألني في الرّخّجي «1» حتى وليته الأهواز، فقعد في سرة الدنيا يأكلها خضما وقضما، ولم يوجه إلينا بدرهم واحد؛ اخرج إليه من ساعتك. فقلت في نفسي: أبعد الوزارة أصبر مستحثا على عامل خراج؟ ولكن لم أجد بدّا من طاعة أمير المؤمنين، فقلت: أخرج إليه يا أمير المؤمنين. فقال: احلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوما واحدا. فحلفت له، ثم انحدرت إلى بغداد، فأمرت ففرش لي زورق بالطبري وغشّي بالسّلخ «1» ، وطرح عليه الكز «2» ، ثم خرجت، فلما صرت بين دير هزقل ودير العاقول، إذا رجل يصيح: يا ملاح، رجل منقطع! فقلت للملاح: قرّب إلى الشطّ. فقال: يا سيدي، هذا شحاذ، فإن قعد معك آذاك. فلم ألتفت إلى قوله، وأمرت الغلمان فأدخلوه، فقعد في كوثل «3» الزورق، فلما حضر وقت الغذاء عزمت أن أدعوه إلى طعامي، فدعوته، فجعل يأكل أكل جائع بنهامة، إلا أنه نظيف الأكل؛ فلما رفع الطعام، أردت أن يستعمل معي ما يستعمل العوام مع الخواص: أن يقوم فيغسل يده في ناحية؛ فلم يفعل، فغمزه الغلمان، فلم يقم فتشاغلت عنه ثم قلت: يا هذا ما صناعتك؟ قال:
حائك! فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى. فقال لي: جعلت فداك، قد سألتني عن صناعتي فأخبرتك، فما صناعتك أنت؟ قال: فقلت في نفسي: هذه أعظم من الأولى، وكرهت أن أذكر له الوزارة فقلت: أقتصر له على الكتابة؛ فقلت: كاتب.
قال: جعلت فداك، الكتّاب على خمسة أصناف: فكاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفصل من الوصل والصدور والتهاني والتعازي والترغيب والترهيب والمقصور والممدود وجملا من العربية؛ وكاتب خراج، يحتاج أن يعرف الزرع والمساحة والأشوال والطّسوق «4» والتقسيط والحساب؛ وكاتب جند، يحتاج أن يعرف مع الحساب الأطماع «5» وشيات الدواب وحلي الناس؛ وكاتب قاض، يحتاج أن يكون عالما بالشروط والأحكام والفروع والناسخ والمنسوخ والحلال والحرام والمواريث؛ وكاتب شرطة، يحتاج أن يكون عالما بالجروح والقصاص والعقول «1» والديات؛ فأيهم أنت أعزك الله؟
قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني، إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب، فتزوّجت أمّه، فكيف تكتب له: أتهنيه أم تعزيه؟
قلت: والله ما أقف على ما تقول.
قال: فلست بكاتب رسائل، فأيّهم أنت؟ قلت: كاتب خراج.
قال: فما تقول- أصلحك الله- وقد ولاك السلطان عملا فبثثت عمالك فيه فجاءك قوم يتظلمون من بعض عمالك؛ فأردت أن تنظر في أمورهم وتنصفهم؛ إذ كنت تحب العدل والبر، وتؤثر حسن الأحدوثة وطيب الذكر، وكان لأحدهم قراح «2» كيف كنت تمسحه؟ قال: كنت أضرب العطوف في العمود وأنظركم مقدار ذلك.
قال: إذا تظلم الرجل. قلت: فأمسح العمود على حدة.
قال: إذا تظلم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب خراج، فأيهم أنت؟
قلت: كاتب جند. قال: فما تقول في رجلين، اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مقطوع الشفة العليا، والآخر مقطوع الشفة السفلى، كيف كنت تكتب حليتهما؟
قال: كنت أكتب: أحمد الأعلم، وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورزق هذا مائتا درهم ورزق هذا ألف درهم، فيقبض هذا على دعوة هذا، فتظلم صاحب الألف. قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب جند؛ فأيهم أنت؟
قلت: كاتب قاض. فقال: فما تقول- أصلحك الله- في رجل توفي وخلف زوجة وسريّة «1» . وكان للزوجة بنت وللسرية ابن، فلما كان في تلك الليلة أخذت الحرة ابن السّرية فادّعته وجعلت ابنتها مكانه، فتنازعتا فيه، فقالت هذه: هذا ابني.
وقالت هذه: هذا ابني. كيف تحكم بينهما وأنت خليفة القاضي؟
قلت: والله لست أدري! قال: فلست بكاتب قاض، فأيهم أنت؟
قلت: كاتب شرطة. قال فما تقول- أصلحك الله- في رجل وثب على رجل فشجه شجة موضحة «2» ، فوثب عليه المشجوج فشجّه شجة مأمومة «3» ؟ قلت ما أعلم. ثم قلت: أصلحك الله، ففسّر لي ما ذكرت. قال: أما الذي تزوجت أمه، فتكتب إليه:
أما بعد، فإن أحكام الله تجري بغير محابّ المخلوقين، والله يختار للعباد، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبر أكرم لها! والسلام.
وأما القراح، فتضرب واحدا في مساحة العطوف، فمن ثمّ بابه.
وأما أحمد وأحمد، فتكتب حلية المقطوع الشفة العليا: أحمد الأعلم؛ والمقطوع الشفة السفلى: أحمد الأشرم.
وأما المرأتان، فيوزن لبن هذه ولبن هذه، فأيهما كان [لبنها] أخفّ فهي صاحبة البنت.
وأما الشجة، فإن في الموضحة خمسا من الإبل، وفي المأمومة ثلاثا وثلاثين وثلثا، فيرد صاحب المأمومة ثمانية وعشرين وثلثا.
قلت: أصلحك الله، فما نزع بك إلى هنا؟ قال: ابن عم لي كان عاملا على ناحية، فخرجت إليه فألفيته معزولا، فقطع بي، فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلت:
ألست ذكرت أنك حائك؟ قال: أنا أحوك الكلام، ولست بحائك الثياب.
قال: فدعوت المزين فأخذ من شعره. وأدخل الحمام فطرحت عليه شيئا من ثيابي، فلما صرت إلى الأهواز، كلمت الرّخّجيّ، فأعطاه خمسة آلاف درهم. ورجع معي، فلما صرت إلى أمير المؤمنين، قال: ما كان من خبرك في طريقك؟ فأخبرته خبري، حتى حدثته حديث الرجل، فقال لي: هذا لا يستغنى عنه، فلأي شيء يصلح؟ قلت:
هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أمير المؤمنين البناء والمرمّة «1» : فكنت والله ألقاه في الموكب النبيل، فينحطّ عن دابته، فأحلف عليه فيقول: سبحان الله! إنما هذه نعمتك وبك أفنيتها.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید