المنشورات

فضائل الكتابة

قال أبو عثمان الجاحظ: ما رأيت قوما أنفذ طريقة في الأدب من هؤلاء الكتاب؛ فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا.
وقال بعض المهالبة لبنيه، تزيّوا بزي الكتاب فإنهم جمعوا أدب الملوك وتواضع السّوقة.
المنصور وقوم من الكتاب:
وعتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكتاب فأمر بحبسهم؛ فرفعوا إليه رقعة ليس فيها إلا هذا البيت:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا
فعفا عنهم وأمر بتخلية سبيلهم.
وقال المؤيد: كتّاب الملوك عيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة؛والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة، وهي صناعة جليلة تحتاج إلى آلات كثيرة.
وقال سهل بن هارون: الكتابة أول زينة الدنيا، التي إليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة.
ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها
قال إبراهيم بن محمد الشيباني: إذا احتجت إلى مخاطبة الملوك، والوزراء، والعلماء، والكتّاب. والخطباء، والأدباء، والشعراء، وأوساط الناس وسوقتهم؛ فخاطب كلا على قدر أبّهته وجلالته، وعلوّه وارتفاعه، وفطنته؛ واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام: منها الطبقات العلية أربع، والطبقات الأخر وهي دونها أربع. ولكل طبقة منها درجة، ولكلّ قسمة لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها ويقلب معناها إلى غيرها.
فالحدّ الأول الطبقات العليا، وغايتها القصوى الخلافة، التي أجلّ الله قدرها، وأعلى شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير.
والطبقة الثانية لوزرائها وكتابها، الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم.
الطبقة الثالثة أمراء ثغورهم وقواد جنودهم؛ فإنه يجب مخاطبة كل أحد منهم على قدره وموضعه وحظه، وغنائه وجزائه، واضطلاعه بما حمل من أعباء أمورهم، وجلائل أعمالهم.
والرابعة القضاة؛ فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء، وجلية الفضلاء، فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء.
وأما الطبقات الأربع الأخر، فهم الملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب إليهم، وأفضالهم تفضيلهم فيها.
والثانية وزراؤهم وكتّابهم وأتباعهم، الذين تقرع أبوابهم، وبعناياتهم تستباح أموالهم.
والثالثة هم العلماء، الذين يجب توقيرهم في الكتب بشرف العلم وعلوّ درجة أهله.
والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة، والحلاوة والطلاوة، والظرف والأدب، فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم، وشدّة تمييزهم وانتقادهم، وأدبهم وتصفحهم، إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم.
واستغنينا عن الترتيب للسوقة والعوام والتجار، باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهنتهم عن هذه الأدوات.
ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه؛ فإنك متى أهملت ذلك وأضعته، لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه؛ فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا لائقا بمن كاتبته، وملامسا لمن راسلته، فإن إلباسك المعنى- وإن صحّ وشرف- لفظا متخلفا عن قدر المكتوب إليه، لم تجر به عادته، تهجين للمعنى وإخلال بقدره. وظلم بحق المكتوب إليه، ونقص ما يجب له؛ كما أن في اتباع تعارفهم، وما انتشرت به عاداتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجة أدبهم.
فمن الألفاظ المرغوب عنها، والصدور المستوحش منها في كتب السادات والملوك والأمراء، على اتفاق المعاني، مثل: أبقاك الله طويلا، وعمّرك مليا. وإن كنا نعلم أنه لا فرق بين قولهم: أطال الله بقاك، وبين قولهم: أبقاك الله طويلا؛ ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزنا، وأنبه قدرا في المخاطبة؛ كما أنهم جعلوا: أكرمك الله وأبقاك، أحسن منزلا في كتب الفضلاء والأدباء، من: جعلت فداك، على اشتراك معناه واحتمال أن يكون فداه من الخير، كما يحتمل أن يكون فداه من الشر؛ ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: ارم فداك أبي وأمي، لكرهنا أن يكتب بها أحد؛ على أن كتّاب العسكر وعوامهم قد ولعوا بهذه اللفظة، حتى استعملوها في جميع محاوراتهم، وجعلوها هجّيراهم «1» في مخاطبة الشريف والوضيع، والكبير والصغير. ولذلك قام محمود الوراق:
كلّ من حلّ سرّ من رامن الناس ... ومن قد يداخل الأملاكا
لو رأى الكلب مائلا بطريق ... قال للكلب: يا جعلت فداكا!
وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل: أبقاك الله، وأمتع بك؛ إلا في الابن والخادم المنقطع إليك، وأما في كتب الإخوان فغير جائز، بل مذموم مرغوب عنه؛ ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكا فتهت في كتبك
أم قد ترى أنّ في ملاطفة الإخوان ... نقصا عليك في أدبك
أكان حقّا كتاب ذي مقة ... يكون في صدره: وأمتع بك!؟
أتعبت كفّيك في مكاتبتي ... حسبك ممّا لقيت في تعبك
فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات:
كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكل شيء أنال من سببك
أنكرت شيئا فلست فاعله ... ولن تراه يخطّ في كتبك
إن يك جهل أتاك من قبلي ... فعد بفضل علىّ من حسبك
فاعف فدتك النّفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك
ولكل مكتوب إليه قدر ووزن، ينبغي للكاتب أن لا يجاوزه عنه ولا يقصر به دونه، وقد رأيتهم عابوا الأحوص حين خاطب الملوك خطاب العوام في قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق «1» الحديث يقول ما لا يفعل
وهذا معنى صحيح في المدح، ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يمدحو بما تمدح به العوام؛ لأنّ صدق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح، فهو واجب على العامة، والملوك لا يمدحون بالفرائض الواجبة، إنما يحسن مدحهم بالنوافل لأن المادح لو قال لبعض الملوك: إنك لا تزني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استودعت، وإنك لتصدق في وعدك وتفي بعهدك؛ فكأنه قد أثنى بما يجب؛ ولو قصد بثنائه إلى مقصده كان أشبه في الملوك.
ونحن نعلم أن كل أمير يتولى من أمير المؤمنين شيئا فهو أمير المؤمنين؛ غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا في الخلفاء خاصة.
ونحن نعلم أن الكيس هو العقل، ولكن لو وصفت رجلا فقلت: إنه لعاقل كنت مدحته عند الناس، وإن قلت: إنه لكيّس كنت قد قصّرت به عن وصفه، وصغّرت من قدره، إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة. ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر؛ إذ كان استعمال العامة لهذه الكلمة مع الحداثة والغرة وخساسة القدر وصغر السن.
وقد روينا عن علي كرم الله وجهه أنه تسمى بالكيّس حين بنى سجن الكوفة، فقال في ذلك:
أما تراني كيّسا مكيّسا ... بنيت بعد نافع مخيّسا «1»
حصنا حصينا وأميرا كيّسا
وقال الشاعر:
ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس
وكذلك تعلم أن الصلاة رحمة، غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء.
كذلك روينا عن ابن عباس.
وسمع سعد بن أبي وقاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تلبيته: لبّيك ياذا المعارج.
فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج، ولكن ليس كذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إنما كنا نقول: لبّيك اللهم لبيك.
وكان أبو إبراهيم المزني يقول في بعض ما خطب به داود بن خلف الأصبهاني:
«فإن قال كذا فقد خرج عن الملة والحمد لله» فنقض ذلك عليه داود، وقال فيما ردّ عليه: نحمد الله على أن يخرج امرأ مسلما من الإسلام؟ وهذا موضع استرجاع، وللحمد مكان يليق به، وإنما يقال في المصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
«2» .
فامتثل هذه المذاهب، واجر على هذه القواعد، وتحفظ في صدور كتبك وفصولها [وافتتاحها] وخواتمها وضع كلّ معنى في موضع يليق به، وتخيّر لكل لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل: نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه؛ وأشباه هذا؛ وفي موضع ذكر المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون وفي موضع ذكر النعمة: الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا، [وما يشاكل ذلك] ؛ فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظّ فيها؛ فإنّ الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كل معنى في موضعه، ويعلّق كل لفظة على طبقتها من المعنى.
واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمال ما أتت به آي القرآن من الاختصار والحذف، ومخاطبة الخاص بالعام والعام بالخاص؛ لأن الله جل ثناؤه [إنما] خاطب بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه- جل ثناؤه- أمره ونهيه ومراده؛ والرسائل إنما يخاطب بها أقوام دخلاء على اللغة، لا علم لهم بلسان العرب.
وكذلك ينبغي للكاتب أن يجتنب اللفظ المشترك، والمعنى الملتبس؛ فإنه إن ذهب يكاتب على مثل معنى قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
«1» ، وكقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
»
، احتاج الكاتب أن يبيّن معناه: اسأل أهل القرية وأهل العير، وبل مكركم بالليل والنهار، ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره.
وكذلك لا يجوز أيضا في الرسائل والبلاغات المنثورة ما يجوز في الأشعار الموزونة؛ لأن الشاعر مضطر، والشعر مقصور مقيّد بالوزن والقوافي؛ فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها؛ واغتفروا فيه سوء النظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار؛ وذلك كله غير سائغ في الرسائل، ولا جائز في الملاغات، فمّما أجيز في الشعر من الحذف مثل قول الشاعر:
قواطنا مكّة من ورق الحما
يعني الحمام؛ وقول الآخر:
صفر الوشاحين صموت الخلخل
يريد الخلخال؛ وكقول الآخر:
دار لسلمى إذه من هواكا يريد إذ هي؛ وكقول الحطيئة:
فبها الرّماح وفيها كلّ سابغة ... جدلاء مسرودة من نسج سلّام
يريد سليمان؛ وقول الآخر:
وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق «1»
وأراد ثعلبة بن سيّار؛ وكما قال الآخر:
ولست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد ولكن.
وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يصغر الاسم في موضع التعظيم، وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: «دويهية» تصغير داهية، «وجذيل» تصغير جذل، «وعذيق» تصغير عذق. وقال الشاعر، وهو لبيد:
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل
وقال الحباب بن المنذر يوم سقيفة بني ساعدة: أنا عذيقها «2» المرجّب، وجذيلها «3» المحكّك، وقد شرحه أبو عبيد.
ومما لا يجوز في الرسائل وكرهوه في الكلام أيضا، مثل قولهم: كلمت إياك، وأعني إياك، وهو جائز في الشعر:
وأحسن وأجمل في أسيرك إنّه ... ضعيف ولم يأسر كإيّاك اسر
وقال الراجز:
إيّاك حتى بلغت إيّاك فتخيّر من الألفاظ أرجحها لفظا وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا وأكرمها حسبا، وأليقها في مكانها، وأشكلها في موضعها؛ فإن حاولت صنعة رسالة فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنحت؛ فإنه ربما مر بك موضع يكون مخرج الكلام إذا كتبت: أنا فاعل، أحسن من أن تكتب: أنا أفعل، وموضع آخر، يكون فيه: استفعلت، أحلى من: فعلت؛ فأدر الكلام على أماكنه، وقلّبه على جميع وجوهه؛ فأيّ لفظة رأيتها أخفّ في المكان الذي ندبتها إليه، وأنزع إلى الموضع الذي راودتها عليه فأوقعها فيه؛ ولا تجعل اللفظة قلقة في موضعها، نافرة عن مكانها؛ فإنك متى فعلت [ذلك] هجّنت الموضع الذي حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذي أردت إصلاحه؛ فإن وضع الألفاظ في غير أماكنها، وقصدك بها إلى غير مصابها، إنما هو كترقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حد الجدّة وتغيّر حسنه، كما قال الشاعر:
إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبيّن الناس أنّ الثّوب مرقوع «1»
كذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخفّ على الأفواه؛ لا سيما إن كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف ومعايرا بكلام عذب لم يسمه التكلف بميسمه ولم يفسده التعقيد باستغلافه.
وكتب عيسى بن لهيعة إلى أخيه أبي الحسن، وزوّر كلامه وجاوز المقدار في التنطع «2» ؛ فوقّع في أسفل كتابه:
أنّى يكون بليغا ... من اسمه كان عيّا
وثالث الحرف منه ... أذ كفيت مسيّا
قال: وبلغني أن بعض الكتاب عاد بعض الملوك فوجده يئن من علة، فخرج عنه بباب الطاق، فإذا بطير يدعى الشفانين، فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابا يتنطع في بلاغته، وذكر: إنه يقال له شفانين، أرجو أن يكون شفاء من أنين! فوقع في أسفل الكتاب: والله لو عطست ضبّا ما كنت عندنا إلا نبطيا، فأقصر عن تنطّعك وسهّل كلامك.
قوله: لو عطست ضبّا، يريد: أن الضّباب من طعام الأعراب وفي بلدهم يقال:
لو عطست فنثرت صبّا من عطاسك، لم يلحق بالأعراب ولم تكن إلا نبطيا.. وقد جاء في بعض الحديث: أن القط من نثرة عطسة الأسد، وأن الفأر من نثرة عطسة الخنزير، فقال هذا: لو أن الضب من نثرتك لم تكن إلا نبطيا.
وفي هذا المعنى قال مخلد الموصلي يهجو حبيبا:
أنت عندي عربي ... ليس في ذاك كلام
شعر ساقيك وفخ ... ذيك خزامى وثمام «1»
وقذى عينيك صمغ ... ونواصيك ثغام «2»
وضلوع الصّدر من شل ... وك نبع وبشام «3»
لو تحرّكت كذا لا ... ن جفلت منك نعام
وظباء راتعات ... ويرابيع عظام «4»
وحمام يتغنى ... حبّذا ذاك الحمام
أنا ما ذنبي لأن ... كذبني فيك الأنام؟
وفتى يحلف ما إن ... عرّقت فيه الكرام «5»
ثم قالوا جاسمي ... من بني الأنّباط حام
كذبوا ما أنت إلا ... عربيّ والسّلام!
وقد رأيتهم شبهوا المعنى الخفّي بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر؛ وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف الجزل لفظ شريف جزل، لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام متسقا، وتضاءل المعنى الحسن تحت المعنى القبيح، كتضاءل الحسناء في الأطمار الرثة.
وإنما يدل على المعنى أربعة أصناف: لفظ، وإشارة، وعقد، وخط؛ وقد ذكر له أرسطاطاليس صنفا خامسا في كتاب المنطق، وهو الذي يسمى النّصيبة «1» ، والنّصيبة الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة، وهي الناطقة بغير لفظ، والمشيرة إليك بغير يد؛ وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المعاني وسافرة عن وجوهها.
وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف صنفان: هما القلم واللسان، وكلاهما للقلب ترجمان! فأمّا اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام، إلى حدّ الإنسانية بالكلام؛ ولذلك قال صاحب المنطق: حدّ الإنسان، الحيّ الناطق.
وقال هشام بن عبد الملك: إن الله رفع درجة اللسان فأنطقه بين الجوارح.
وقال علي بن عبيدة: إنما يبين عن الإنسان، اللسان وعن المودّة العينان.
وقال آخر: الرجل مخبوء تحت لسانه.
وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
وقال الشاعر:
وما المرء إلا الأصغران: لسانه ... ومعقوله، والجسم خلق مصوّر «2»
فإن طرّة راقتك يوما فربّما ... يمرّ مذاق العود والعود أخضر
وللخط صورة معروفة، وحلية موصوفة، وفضيلة بارعة. ليست لهذه الأصناف؛ لأنه يقوم مقامه في الإيضاح عند المشهد ويفضله عند المغيب؛ لأنّ الكتب تقرأ في الأماكن المتباينة، والبلدان المتفرّقة، وتدرس في كل عصر وزمان، وبكلّ لسان؛ واللسان وإن كان ذلقا فصيحا لا يعدو سامعه ولا يجاوزه إلى غيره.
البلاغة
قال سهل بن هارون: سياسة البلاغة أشدّ من البلاغة.
وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى البعيد، والدلالة بالقليل على الكثير.
وقيل لابن المقفع: ما البلاغة؟ قال: قلة الحصر، والجراءة على البشر. قيل له: فما العيّ؟ قال: الإطراق من غير فكرة، والتنحنح من غير علة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: تطويل القصير، وتقصير الطويل.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: حذف الفضول، وتقريب البعيد.
وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ فقال: حسن الاستعارة.
وقيل لجالينوس: ما البلاغة؟ فقال: إيضاح المعضل، وفك المشكل.
وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه.
وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى، والقصد للحجة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: تصوير الحق في صورة الباطل، وتصوير الباطل في صورة الحق.
وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ فقال: الجزالة والإصابة.
تضمين الأسرار في الكتب
وأمّا تضمين الأسرار في الكتب حتى لا يقرؤها غير المكتوب إليه، ففيه أدب يجب معرفته، وقد تعلقت العامّة بكتاب القمّيّ والأصبهانيّ.
الأصبهاني: وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي منه أشياء جليلة من تبديل الحروف، وذلك ممكن لكل إنسان، غير أنّ اللطيف من ذلك أن تأخذ لبنا حليبا فتكتب به في القرطاس، فيذرّ المكتوب له عليه رمادا سخنا من رماد القراطيس، فيظهر ما كتبت به إن شاء الله؛ وإن شئت كتبت بماء الزاج الأبيض، فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمرّ عليه شيئا من غبار الزاج. وإن أحببت أن لا يقرأ الكتاب بالنهار ويقرأ بالليل، فاكتبه بمرارة السّلحفاة.
قولهم في الأقلام
قالوا: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرائر القلوب على لغات مختلفة، من معان معقودة بحروف معلومة مؤلّفة، متباينات الصور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكر، ونتاجها التدبر، تخرس منفردات، وتنطق مزدوجات، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة، خلا قلم حرّف باريه قطّته ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر عنه إليه، وشق رأسه ليحتبس المداد عليه، فهنالك استمدّ القلم بشقه، ونثر في القرطاس بخطه حروفا أحكمها التفكر، وجرى على أسلته الكلام الذي سداه العقل، وألحمه اللسان، ونهسته اللهوات، وقطعته الأسنان، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، عن أنحاء شتى من صفات وأسماء.
وقال الشاعر وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:
وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق ... له ذملان في بطون المهارق «1»
إذا استعجلته الكفّ أمطر وبله ... بلا صوت إرعاد ولا ضوء بارق
إذا ما حدا غرّ القوافي رأيتها ... مجلّلة تمضي أمام السّوابق
كأنّ عليه من دجى الليل حلّة ... إذا ما استهلّت مزنه بالصّواعق
كأن الّلآلي والزبرجد نطقه ... ونوم الخزامى في عيون الحدائق «2»
وقال العلوي في صفة القلم:
وعريان من خلعة مكتس ... يميس من الوشي في يلمق «1»
تحدّر من رأسه ريقة ... تسيل على ذروة المفرق
فكم من أسير له مطلق ... وكم من طليق له موثق
يقيم ويوطن غرب البلاد ... وينهى ويأمر بالمشرق
قليل كثير ضروب الخطو ... ط وأخرس مستمع المنطق
يسير بركب تلال عجال ... إذا ما حدا الفكر في مهرق
وقال آخر في القلم:
لك القلم المطيعك غير أنّا ... وجدنا وسمه غير المطاع
له ذوقان من أري هني ... ومن شري وبيّ ذي امتناع «2»
أحدّ اللفظ ينطق عن سواه ... فيسمع وهو ليس بذي استماع
إذا استسقى بلاغتك استهلّت ... عليه سماء فكرك باندفاع
وقال:
وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... بأسمر مشقوق الخياشيم يرعف
كأنّ عليه ملبسا جلد حية ... مقيم فما يمضي ولا يتخلّف
جليل شئون الخطب، ما كان راكبا ... يسير، وإن أرجلته فمضعّف
وقال حبيب بن أوس، وهو من أحسن ما قيل فيه:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجني اشتارته أيد عواسل
له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل «3»
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس الّلطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذّهن الجليّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى، وسمينا خطبه وهو ناحل
ولما قال حبيب هذا الشعر حسده الخثعمي، فقال لابن الزيات:
ما خطبة القلم التي أنبيتها ... وردت عليك لشاعر مجدود
وأنشد البحتري لنفسه يصف قلم الحسن بن وهب:
وإذا تألق في النّديّ كلامه ال ... مصقول خلت لسانه من عضبه
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدّجى في كتبه
باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منّا، ويبعد نيله في قربه
حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفّق وقليبها في قلبه
وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبّه
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بعض الكتّاب ويصف القلم:
قلم الكتابة في يمينك آمن ... مما يعود عليه فيما يكتب
قلم به ظفر العدوّ مقلّم ... وهو الأمان لما يخاف ويرهب
يبدي السرائر وهو عنها محجب ... ولسان حجّته بصمت يعرب
ومن قولنا في القلم:
بكفّه ساحر البيان إذا ... أداره في صحيفة سحرا
ينطق في عجمة بلفظته ... نصمّ عنه ويسمع البصرا
نوادر تقرع القلوب بها ... إن تستبنها وجدتها صورا
نظام درّ الكلام ضمّنه ... سلكا لخطّ الكتاب مستطرا «1»
إذا امتطى الخنصران أذكر من ... سحبان فيما أطال واختصرا
يخاطب الغائب البعيد بما ... يخاطب الشاهد الذي حضرا
ترى المقادير تستدفّ له ... وتنفذ الحادثات ما أمرا «1»
شخب ضئيل لفعله خطر ... أعظم به في ملمّة خطرا
تمجّ فكاه ريقة صغرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا
يواقع النفس منه ما حذرت ... وربما جنّبت به الحذرا
مهفهف تزدهي به صحف ... كأنما حلّيت به دررا «2»
كأنها ترفع العيون بها ... خلال روض مكلل زهرا
إن قرّبت مرّطت طوابعها ... ما فضّ طين لها ولا كسرا
يكاد عنوانها لروعته ... ينبيك عن سرّها الذي استترا
ومن أحسن ما شبهت به الأقلام وشبه بها، قول ذي الرّمّة:
كأنّ أنوف الطير في عرصاتها ... خراطيم أقلام تخط وتعجم
ومثله قول عدي بن الرقاع:
يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام
ومن قوله في ولد البقرة:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
ومنه قول المأمون:
كأنما قابل القرطاس إذ مشقت ... منها ثلاثة أقلام على قلم «3»
ومثله قولنا فيه:
إذا أدارت بنانه قلما ... لم تدر للشّبه أيّها القلم
ومن قولنا في الأقلام:
ومعشر تنطق أقلامهم ... بحكمة تلقنها الأعين
تلفظها في الصكّ أقلامهم ... كأنما أقلامهم ألسن
ومن قولنا في الأقلام:
يا كاتبا نقشت أنامل كفّه ... سحر البيان بلا لسان ينطق
إلا صقيل المتن ملموم القوى ... حزّت لهازمه وشق المفرق
فإذا تكلم رغبة أو رهبة ... في مغرب أصغى إليه المشرق
يدلي بريقة أريه أو شريه ... يبكي ويضحك من نداه المهرق «1»
ولعبد الله بن المعتز كلام يصف القلم. القلم يخدم الإرادة؛ ولا يمل الاستزادة؛ يسكت واقفا، وينطق ساكتا؛ على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء.
وقال سليمان بن وهب وزير المهدي: كل قلم تطيل جلفته؛ فإن الخط يخرج به أوقص «2» .
وكتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط، فكتب إليه:
أما بعد، فليكن قلمك بحريا لا سمينا ولا رقيقا، ما بين الرقة والغلظ، ضيق النقب، فأبره بريا مستويا كمنقار الحمامة: أعطف قطته، ورقق شفرته؛ وليكن مدادك صافيا خفيفا، إذا استمددت منه ليلة ثم صفه في الدواة؛ وليكن قرطاسك رقيقا مستوي النسج، تخرج السحاة مستوية من أحد الطرفين إلى آخره؛ فليست تستقيم السطور إلا فيما كان كذلك، وليكن أكثر تمطيطك في طرف القرطاس الذي في يسارك، وأقله في الوسط ولا تمطّ في الطرف الآخر، ولا تمط كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مط، فإنك إذا فرّقت القليل كان قبيحا، وإذا جمعت الكثير كان سمجا؛ ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله، واخططه بعرضه، واختمه بأسفله؛ واكتب الباء والتاء والسين والشين، والمطة العليا من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين، ورأس كل مرسل برأس القلم؛ واكتب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء، والمطة السفلى من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين، بالسن السفلى من القلم وامطط بعرض القلم، والمط نصف الخط، ولا يقوى عليه إلا العاقل، ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضا إلا بالنظر إلى اليد في استعمالها الحركة. والسلام.
وقال ابن طاهر لكاتبه: ألق دواتك، وأطل سنّ قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط «1» بين الحروف.
وقال إبراهيم بن جبلة: مر بي عبد الحميد وأنا أخط خطاّ رديئا، فقال لي: أ [لا] تحب أن يجود خطّك؟ قلت: بلى. قال: أطل جلفة القلم وأسمنها؛ وحرّف قطّتك وأيمنها. ففعلت فجاد خطي.
وقال العتابي: ببكاء القلم تبتسم الكتب.
وقال بعض الحكماء: أمر الدين والدنيا تحت سنان السيف والقلم.
وقال حبيب الطائي:
لولا مناشدة القربى لغادركم ... حصائد المرهفين: السيف والقلم
وقال أرسطا طاليس: عقول الرجال تحت سنّ أقلامهم.
وقال أبو حكيمة: كنت أكتب المصاحف، فمر بي عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقال: أجلل قلمك. فقصمت من قلمي قصمة، فقال: هكذا نوره كما نوره الله.
وكان ابن سيرين يكره أن يكتب القرآن مشقا «2» ، وقال: أجود الخط أبينه.
وقال سليمان بن وهب: زيّنوا خطوطكم بإسبال ذوائبها. 
وقال عمرو بن مسعدة: الخط صورة ضئيلة، لها معان جليلة، وربما ضاق عن العيون، وقد ملأ أقطار الظنون.
وذكر علي بن عبيدة القلم فقال: أصمّ يسمع النّجوى؛ أعيا من باقل، وأبلغ من سحبان وائل؛ يجهل الشاهد، ويخبر الغائب؛ ويجعل الكتب بين الإخوان ألسنا ناطقة، وأعينا لاحظة، وربما ضمنها من ودائع القلوب ما لا تبوح به الألسن عند المشاهدة.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب: ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام في خدود الكتب.
وقال العتابي: الأقلام مطايا الفطن.
وتخاير «1» غلامان في بعض الدواوين، فقاما إلى أستاذهما يعرضان عليه خطوطهما، فكره أن يفضّل أحدهما على الآخر؛ فقال لأحدهما: أما خطّك أنت فوشي محوك.
وقال للآخر: وأما خطك أنت فذهب مسبوك؛ تكافأتما في غاية، وتوافيتما في نهاية.
وقال آخر: دخلت الديوان، فنظرت إلى غلام بيده فلم كأنه قضيب عقيان، وعليه مكتوب:
وا بأبي! وا بأبي ... من كفّ من يكتب بي
وقال أبو هفان يصف القلم:
وإذا أمرّ على المهارق كفّه ... بأنامل يحملن شختا مرهفا «2»
ومقصّرا ومطوّلا ومقطّعا ... وموصّلا ومشتّتا ومؤلّفا
كالحية الرّقشاء إلا أنه ... يستنزل الأروى إليه تلطّفا «3»
يهفو به قلم يمجّ لعابه ... فيعود سيفا صارما ومثقّفا
وقال آخر في وصف الدواة:
ومسودّة الأرجاء قد خضت جالها ... وروّيت من قعر لها غير منبط
خميص الحشا يروى على كلّ مشرب ... أمينا على سرّ الأمين المسلّط
وقال بعض الكتّاب:
وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأسحار يأرج بالغداة
بأضوع أو بأسطع من نسيم ... تؤدّيه الألاقة من دواة
وقال آخر في وصف محبرة:
ولجّة بحر أجمّ العباب ... باد وأمواجه تزخر
إذا غاص فيه أخو غوصة ... سريع السّباحة ما يفتر
فأنفس بذلك من غائص ... بديع الكلام له جوهر
وأكرم ببحر له لجّة ... جواهرها حكم تنثر
وقال ثمامة بن أشرس: ما أثرته الأقلام، لم تطمع في درسه الأيام. ونظر المأمون إلى جارية من جواريه تخطّ خطاّ حسنا، فقال فيها:
وزادت لدينا حظوة حين أطرقت ... وفي إصبعيها أسمر اللون أهيف
أصمّ سميع، ساكن متحرّك ... ينال جسيمات المنى وهو أعجف «1»
وقال بعض الكتاب:
إذا ما التقينا وانتضينا صوارما ... يكاد يصم السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائع ... كمثل اللآلي نظمها ونثيرها
قال بشر بن المعتمر: القلب معدن، والحلم «2» جوهر، واللسان مستنبط، والقلم صائغ، والخط صيغة.
وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضمير، إذا رعف «3» أعلن أسراره وأبان آثاره.
وقالوا: حسن الخط يناضل عن صاحبه، ويوضح الحجة، ويمكّن له درك البغية.
وقال آخر: الخط الرديء زمانة»
الأديب.
وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: منها جودة بري القلم، وإطالة جلفته، وتحريف قطّته، وحسن التأني لامتطاء الأنامل، وإرسال المدّة بقدر اتساع الحروف، والتحرز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطأ والإعجام على التصحيف، واستواء الرسوم، وحلاوة المقاطع.
وقال سعيد بن حميد: من أدب الكاتب أن يأخذ قلمه في أحسن أجزائه، وأبعد ما يتمكن المداد فيه، ويعطيه من القرطاس حقه.
وقال عبد الله بن عباس: كلّ كتاب غير مختوم فهو غفل.
وفي تفسير قول الله تعالى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ
«2» قال: مختوم.
ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة قد أكثر صاحبها إعجامها، فقال: ما أحسن ما كتبت إلا أنك أكثرت شونيزها «3» .
وقال أبو عبيدة: لا يقال كأس إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة، ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خوان؛ ولا قلم إلا إذا بري، وإلا فهي قصبة.
وقال آخر: جلوس الأدباء عند الوراقين، وجلوس المخّمنين عند النخاسين، وجلوس الطفيليين عند الطباخين.
وكتب علي بن الأزهر إلى صديق له يسأله أقلاما يبعث بها إليه:
أما بعد، فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم؛ فحلت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصّحريّة أسرع في الكواغد، وأمرّ في الجلود، كما أن البحرية منها أساس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشدّ لتصريف الخط فيها؛ ونحن في بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت أن تتقدم في اختيار أقلام بحرية، وتتأنق في انتقائها قبلك، وتطلبها في مظانّها ومنابتها، من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمم في اختيارك منها الشديد المحص «1» ، الصلبة المقصّ، النقية الجلود، القليلة الشحوم، المكتنزة اللحوم، الضيقة الأجواف، الرزينة المحمل؛ فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الجفاء، وأن تقصد بانتقائك الرّقاق القضبان، المقومات المتون، الملس المعاقد، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا وهي قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبّان ينعها، ولم يؤخّر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر الشتاء «2» ؛ وعفن الأنداء؛ فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا، قطعا رقيقا؛ ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، ووجهتها مع من يؤدي الأمانة في حراستها وحفظها وإيصالها، وكتبت معه رقعة بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید