المنشورات

وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحرث بن كلدة، فأكلا منه؛ فقال الحرث: أكلنا سمّ سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول! فماتا جميعا في يوم واحد عند انقضاء السنة، وإنما سمّته يهود كما سمت النبي صلّى الله عليه وسلم بخيبر في ذراع الشاة؛ فلما حضرت النبي صلّى الله عليه وسلم الوفاة قال: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى قطعت أبهري» ! وهذا مثل ما قال الله تعالى: ... ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ
»
والأبهر والوتين: عرقان في القلب إذا انقطع أحدهما مات صاحبه.
الزهري عن عروة عن عائشة قالت: اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خلون من جمادي الآخرة، وكان يوما باردا، فحمّ خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر أن يصلي بالناس؛ وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ؛ وغسلته امرأته أسماء بنت عميس وصلى عليه عمر بن الخطاب بين القبر والمنبر، وكبّر أربعا.
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح فبلغ ذلك عمر فنهاهنّ، فأبين فقال لهشام بن الوليد: أخرج إليّ بنت أبي قحافة.
فأخرج إليه أمّ فروة؛ فعلاها بالدّرّة «2» ضربا، فتفرّق النوائح.
وقالت عائشة وأبوها يغمض، رضي الله عنه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
قالت عائشة: فنظر إليّ وقال: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغمي عليه، فقالت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
فنظر إليّ كالغضبان وقال: قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
«3» . ثم قال: انظروا ملاءتين خلقين فاغسلوهما وكفّنوني فيهما؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
عروة بن الزبير والقاسم بن محمد، قالا: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فلما توفى حفر له وجعل رأسه بين كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر، وبقي في البيت موضع قبر؛ فلما حضرت الوفاة الحسن بن علي، أوصى بأن يدفن مع جده في ذلك الموضع؛ فلما أراد بنو هاشم أن يحفروا له منعهم مروان- وهو والي المدينة في أيام معاوية- فقال أبو هريرة: علام تمنعه أن يدفن مع جده؟ فأشهد لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» قال له مروان: لقد ضيّع الله حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا لم يروه غيرك. قال: أنا والله لقد قلت ذلك؛ لقد صحبته حتى عرفت من أحبّ ومن أبغض، ومن نفى ومن أقرّ، ومن دعا له ومن دعا عليه.
قال: وسطح قبر أبي بكر كما سطّح قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، ورشّ بالماء.
هشام بن عروة عن أبيه: أن أبا بكر صلّي عليه ليلا ودفن ليلا.
ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، ولها مات النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهرا وأياما، ووهب نصيبه في ميراثه لولد أبي بكر وكان نقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله.
ولما قبض أبو بكر سجّي بثوب، فارتجّت المدينة من البكاء، ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول:
«رحمك الله أبا بكر! كنت والله أول القوم إسلاما، وأصدقهم إيمانا، وأشدهم يقينا وأعظمهم غنى، وأحفظهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول الله خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا؛ صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا وسمّاك الله في كتابه صدّيقا فقال:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
«1» ، يريد محمدا ويريدك؛ كنت والله للإسلام حصنا، وللكافرين ناكبا، لم تفلل «2» حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك؛ كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف، ولا تزيله القواصف؛ كنت كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ضعيفا في بدنك؛ قويّا في دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيف عندك قوي، والقويّ عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي وتردّه للضعيف، فلا حرمك الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك.
القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي توفي فيه، فقالت:
يا أبت، اعهد إليّ خاصّتك، وأنفذ رأيك في عامتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك؛ إنك محضور ومنصل بي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك، وانتقاع لونك؛ فإلى الله تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك؛ أرقأ فلا أرقأ «1» وأشكو فلا أشكى.
قال: فرفع رأسه وقال:
يا أمه، هذا يوم يخلّى لي عن غطائي، وأشاهد جزائي، إن فرحا فدائم، وإن ترحا فمقيم، إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم، حين كان النكوص إضاعة، والخزل «2» تفريطا، فشهيدي الله ما كان بقلبي إلا إياه؛ فتعلقت بصحفتهم وتعللت بدرّة لقحتهم، وأقمت صلاي معهم، لا مختالا أشرا، ولا مكاثرا بطرا، ولم أعد سدّ الجوعة، ووري العورة «3» ، وقواته القوام؛ من طوى ممعض «4» تهفو منه الأحشاء، وتجف له الأمعاء، واضطررت إلى ذلك اضطرار الجرض «5» إلى الماء المعيف الآجن؛ فإذا أنا متّ فردّي إليهم صحفتهم وعبدهم ولقحتهم ورحاهم، ودثارة ما فوقي اتقيت بها البرد، ودثارة ما تحتي اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوها قطع السعف. 
قال: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول الله لقد كلفت القوم بعدك تعبا، ووليتهم نصبا، فهيهات من شق غبارك فكيف اللحاق بك.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید