المنشورات

أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان

صالح بن كيسان قال: قال ابن عباس: دخلت على عمر في أيام طعنته وهو مضطجع على وسادة من أدم «1» ، وعنده جماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقال له رجل؛ ليس عليك بأس! قال:
لئن لم يكن عليّ اليوم ليكونن بعد اليوم. وإن للحياة لنصيبا من القلب، وإن للموت لكربة، وقد كنت أحبّ أن أنجّي نفسي وأنجو منكم، وما كنت من أمركم إلا كالغريق يرى الحياة فيرجوها ويخشى أن يموت دونها، فهو يركض بيديه ورجليه، وأشدّ من الغريق الذي يرى الجنة والنار وهو مشغول. ولقد تركت زهرتكم كما هي ما لبستها فأخلقتها، وثمرتكم يانعة في أكمامها ما أكلتها، وما جنيت ما جنيت إلا لكم، وما تركت ورائي درهما ما عدا ثلاثين أو أربعين درهما.
ثم بكى وبكى الناس معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أبشر، فو الله لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ومات أبو بكر وهو عنك راض، وإن المسلمين رضوان عنك.
قال: المغرور والله من غررتموه؛ أما والله لو أن لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطّلع.
داود بن أبي هند عن قتادة قال: لما ثقل عمر قال لولده عبد الله: ضع خدّي على الأرض. فكره أن يفعل ذلك، فوضع عمر خدّه على الأرض وقال: ويل لعمر، ولأمّ عمر، إن لم يعف الله عنه! أبو أمية بن يعلى عن نافع قال: قيل لعبد الله بن عمر: تغسّل الشهداء؟ قال: كان عمر أفضل الشهداء، فغسّل وكفن وصلّي عليه.
يونس عن الحسن وهشام بن عروة عن أبيه قالا: لما طعن عمر بن الخطاب قيل له:
يا أمير المؤمنين، لو استخلفت! قال:
إن تركتكم فقد ترككم من هو خير مني، وإن استخلفت فقد استخلف عليكم من هو خير مني؛ ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيّك يقول: إن سالما ليحبّ الله حبّا لو لم يخفه ما عصاه.
قيل له: فلو أنك عهدت إلى عبد الله، فإنه لها أهل في دينه وفضله وقديم إسلامه؟
قال: بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد عن أمّة محمد-[ولوددت أني نجوت من هذا الأمر كفافا لا لي ولا عليّ.
ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولّي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحق- وأشار إلى عليّ- ثم رأيت أن لا أتحمّلها حيّا وميّتا؛ فعليكم بهؤلاء الرهط الذين قال فيهم النبي صلّى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة. منهم: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ولست مدخله فيهم؛ ولكن الستة: علي، وعثمان ابنا عبد مناف؛ وسعد، وعبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ والزبير حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمته، وطلحة الخير؛ فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوكم واليا فأحسنوا مؤازرته.
فقال العباس لعليّ: لا تدخل معهم. قال: أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره! فلما أصبح عمر دعا عليا وعثمان وسعدا والزبير وعبد الرحمن، ثم قال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وإني لا أخاف الناس عليكم، ولكني أخافكم على الناس؛ وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فاجتمعوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاوروا واختاروا منكم رجلا، وليصلّ بالناس صهيب ثلاثة أيام، ولا يأت اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضركم عبد الله مشيرا ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم. ومن لي بطلحة؟ فقال سعد: أنا لك به إن شاء الله.
ثم قال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله قد أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار وكونوا مع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.
وقال للمقداد بن الأسود الكندي: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.
وقال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن وطلحة إن حضر، بيت عائشة، واحضر عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، وقم على رءوسهم؛ فإن اجتمع خمسة على رأي واحد وأبي واحد فاشدخ «1»
رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة فرضوا وأبي اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكّموا عبد الله بن عمر؛ فإن لم يرضوا بعبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين، إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس. وخرجوا.
فقال عليّ لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم فلن يؤمّركم أبدا.
وتلقاه العباس فقال له: عدلت عنا؟ قال له وما أعلمك؟ قال: قرن بي عثمان ثم قال ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا إن رضي فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف؛ فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون فلو كان الآخران معي ما نفعاني.
فقال العباس: لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستاخرا بما أكره: أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تسأله: فيمن هذا الأمر؟ فأبيت؛ وأشرت عليك بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تعاجل الأمر، فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم، فأبيت؛ فاحفظ عني واحدة: كل ما عرض عليك القوم فأمسك، إلى أن يولوك؛ واحذر هذا الرهط؛ فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا.
فلما مات عمر واخرجت جنازته، تصدى علي وعثمان، أيهما يصلي عليه؛ فقال عبد الرحمن: كلا كما يحب الإمرة!، لستما من هذا في شيء؛ هذا صهيب استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثا حتى يجتمع الناس على إمام. فصلى عليه صهيب.
فلما دفن عمر جمع المقداد بن الأسود أهل الشورى في بيت عائشة بإذنها، وهم خمسة معهم ابن عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة فحجبهم؛ وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما «1» سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا من أهل الشورى!
فتنافس القوم في الأمر، وكثر بينهم الكلام، كل يرى أنه أحق بالأمر؛ فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها! لا والذي ذهب بنفس عمر، لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمرو أو أجلس في بيتي.
فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه، ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم فلم يجبه أحد؛ فقال. فأنا أنخلع منها. قال عثمان. أنا أول من رضي؟ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول. عبد الرحمن أمين في الأرض، أمين في السماء. فقال القوم:
رضينا. وعليّ ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن: قال. أعطني موثقا لتؤثرنّ الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نصحا. قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من نكل، وأن ترضوا بما أخذت لكم فتوثق بعضهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن، فخلا بعلي فقال: إنك أحقّ بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك، ولم تبعد؛ فمن أحق بها بعدك من هؤلاء؟ قال:
عثمان. ثم خلا بعثمان فسأله عن مثل ذلك؛ فقال: علي. ثم خلا بسعد فقال: عثمان. ثم خلا بالزبير فقال: عثمان، فقال عمار بن ياسر لعبد الرحمن: إن أردت.
أبو الحسن قال: لما خاف عليّ بن أبي طالب عبد الرحمن بن عوف والزبير وسعدا أن يكونوا مع عثمان، لقي سعدا ومعه الحسن والحسين، فقال له: أسألك برحم ابنيّ هذين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبرحم عمي حمزة منك ألّا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا عليّ لعثمان؛ فإني أولي إليك بما لا يدلي به عثمان.
ثم دار عبد الرحمن لياليه تلك على مشايخ قريش يشارهم، فكلهم يشير بعثمان؛ حتى إذا كان في الليلة التي استكمل في صبيحتها الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد هجعة من الليل، فأيقظه فقال: ألا أراك إلا نائما ولم أذق في هذه الليالي نوما! فانطلق فادع لي الزبير وسعدا. فدعا بهما؛ فبدأ بالزبير في مؤخرة المسجد، فقال له: خلّ ابني عبد مناف لهذا الأمر. فقال: نصيبي لعليّ. فقال لسعد: أنا وأنت كلالة «1» ، فاجعل نصيبك لي فأختار. قال: أما إن اخترت نفسك فنعم، وأما إن اخترت عثمان فعليّ أحبّ إليّ منه. قال: يا أبا إسحق، إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار، ولو لم أفعل وجعل إليّ الخيار ما أردتها؛ إني رأيت كأني في روضة خضراء كثيرة العشب؛ فدخل فحل لم أر قطّ فحلا أكرم منه، فمرّ كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها؛ ودخل بعير يتلوه فاتبع أثره حتى خرج من الروضة، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه «1» يلتفت يمينا وشمالا ويمضي قصد الأولين، حتى خرج من الروضة؛ ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة؛ ولا والله لا أكون البعير الرابع؛ ولا يقوم بعد أبي بكر وعمر أحد فيرضى الناس عنه! ثم أرسل المسوّر إلى عليّ فناجاه طويلا، وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم أرسل المسور إلى عثمان فناجاه طويلا حتى فرق بينهما أذان الصبح.
فلما صلوا الصبح جمع إليه الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين والأنصار، وإلى أمراء الأجناد، حتى ارتج المسجد بأهله؛ فقال: أيها الناس إن الناس قد أحبوا أن تلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال عمار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليا، قلنا: سمعنا وأطعنا! قال ابن أبي سرح إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبي ربيعة صدق؛ إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا! فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية.
فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنبيه، وأعزنا بدينه فأنّى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم؟
فقال له رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتتن الناس.
فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت؛ فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال أعمل بمبلغ علمي وطاقتي.
ثم دعا عثمان فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم! فبايعه؛ فقال علي: حبوته محاباة، ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا؛ أما والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم هو في شأن.
فقال عبد الرحمن: يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد: أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون! فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين.
ثم قال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم؛ إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم منه، ولا أقضى بالعدل، ولا أعرف بالحق؛ أما والله لو أجد أعوانا! فقال له عبد الرحمن: يا مقداد، اتق الله فإني أخشى عليك الفتنة! قال: وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه عثمان، فقيل له: إن الناس قد بايعوا عثمان. فقال: أكل قريش رضوا به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت عن رأس أمرك. قال طلحة: فإن أبيت أتردّها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟
قال: نعم. قال: قد رضيت، لا أرغب عما اجتمعت الناس عليه. وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبت إذا بايعت عثمان، ولو بايعت غيره ما رضيناه. قال: كذبت يا أعور! لو بايعت غيره لبايعته وقلت هذه المقالة.
وقال عبد الله بن عباس: ما شيت عمر بن الخطاب يوما، فقال لي: يا بن عباس، ما يمنع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاصة؟ قلت: لا أدري! قال: لكني أدري؛ إنكم فضلتموهم بالنبوة، فقالوا: إن فضلوا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا شيئا، وإنّ أفضل النصيبين بأيدكم، بل ما إخالها إلا مجتمعة لكم وإن نزلت على رغم قريش.
فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلة «1» من أصحاب محمد، قيل لعبد الرحمن: هذا عملك! قال: ما ظننت هذا! ثم مضى، ودخل عليه وعاتبه، وقال: إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخلفتهما وحابيت أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين. فقال: إن عمر كان يقطع قرابته في الله، وأنا أصل قرابتي في الله. قال عبد الرحمن: لله عليّ ألا أكلّمك أبدا! فلم يكلمه أبدا حتى مات. ودخل عليه عثمان عائدا»
له في مرضه، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يكلمه.
ذكروا أن زيادا أوفد ابن حصين على معاوية، فأقام عنده ما أقام، ثم إن معاوية بعث إليه ليلا فخلا به، فقال له: يا ابن حصين، قد بلغني أن عندك ذهنا وعقلا؛ فأخبرني عن شيء أسألك عنه قال: سلني عما بدا لك. أخبرني ما الذي شتّت أمر المسلمين وفرّق أهواءهم وخالف بينهم؟ قال: نعم، قتل النّاس عثمان قال: ما صنعت شيئا. قال: فمسير عليّ إليك وقتاله إياك. قال: ما صنعت شيئا قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إياهم قال ما صنعت شيئا. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر؛ وذلك أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثم قبضه الله إليه، وقدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمر دينهم، فعمل بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسار بسيره حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه: ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف. وقال المغيرة بن شعبة: إني لعند عمر بن الخطاب ليس عنده أحد غيري، إذ أتاه آت فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يزعمون أن الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له، وأنه كان بغير مشورة ولا مؤامرة؟ وقالوا تعالوا نتعاهد ألا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: في دار طلحة. فخرج نحوهم وخرجت معه وما أعلمه يبصرني من شدّة الغضب، فلما رأوه كرهوه وظنوا الذي جاء له، فوقف عليهم وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان، يغويه وهو يلعنه؛ والنار والماء يطفئها وهي تحرقه؛ ولم يأن لكم بعد وقد آن ميعادكم ميعاد المسيح متى هو خارج. قال: فتفرقوا فسلك كل واحد منهم طريقا؛ قال المغيرة:
ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحبسه عليّ. فقلت: لا يفعل أمير المؤمنين وهو مغدّ «1» ، فقال: أدركه وإلا قلت لك يا بن الدباغة. قال: فأدركته فقلت له: قف مكانك لإمامك واحلم، فإنه سلطان وسيندم وتندم. قال: فأقبل عمر فقال: والله ما خرج هذا الامر إلا من تحت يدك. قال عليّ: اتق أن لا تكون الذي نعطيك فنفتنك. قال: وتحب أن تكون هو؟ قال: لا، ولكننا نذكرك الذي نسيت. فالتفت إليّ عمر فقال: انصرف فقد سمعت منا عند الغضب ما كفاك. فتنحيت قريبا، وما وقفت إلا خشية أن يكون بينهما شيء فأكون قريبا، فتكلما كلاما غير غضبانين ولا راضين ثم رأيتهما يضحكان وتفرّقا؛ وجاءني عمر، فمشيت معه وقلت: يغفر الله لك، أغضبت؟ قال: فأشار إلى عليّ وقال: أما والله لولا دعابة فيه ما شككت في ولايته وإن نزلت على رغم أنف قريش.
العتبي عن أبيه: أن عتبة بن أبي سفيان قال: كنت مع معاوية في دار كندة، إذ أقبل الحسن والحسين ومحمد، بنو علي بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين إن لهؤلاء القوم أشعارا وأبشارا، وليس مثلهم كذب، وهم يزعمون أن أباهم كان يعلم. فقال:
إليك من صوتك فقد قرب القوم، فإذا قاموا فذكرني بالحديث، فلما قاموا قلت: يا أمير المؤمنين ما سألتك عنه من الحديث؟ قال: كل القوم كان يعلم وكان أبوهم من أعلمهم. ثم قال: قدمت على عمر بن الخطاب، فإني عنده إذ جاءه عليّ وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا وهم يتدافعون ويضحكون، فلما رآهم عمر نكس «1» ، فعلموا أنه على حاجة، فقاموا كما دخلوا؛ فلما قاموا أتبعهم بصره فقال: فتنة أعوذ بالله من شرّهم، وقد كفاني الله شرهم! قال: ولم يكن عمر بالرجل يسأل عما لا يفسّر؛ فلما خرجت جعلت طريقي على عثمان؛ فحدثته الحديث وسألته الستر، قال: نعم، على شريطة. قلت: هي لك. قال:
تسمع ما أخبرك به وتسكت إذا سكتّ. قلت: نعم. قال: ستة يقدح بينهم زناد الفتنة، يجري الدم منهم على أربعة. قال: ثم سكت، وخرجت إلى الشام، فلما قدمت على عمر فحدث من أمره ما حدث- فلما مضت الشورى- ذكرت الحديث؛ فأتيت بيت عثمان وهو جالس وبيده قضيب فقلت: يا أبا عبد الله، تذكر الحديث الذي حدثتني؟ قال: فأزم «2» على القضيب عضّا؛ ثم أقلع عنه وقد أثر فيه، فقال: ويحك يا معاوية! أي شيء ذكرتني! لولا أن يقول الناس: خاف أن يؤخذ عليه، لخرجت إلى الناس منها! قال: فأبى قضاء الله إلا ما ترى.
ومما نقم الناس على عثمان: أنه آوى طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص- ولم يؤوه أبو بكر ولا عمر- وأعطاه مائة ألف؛ وسيّر أبا ذرّ إلى الرّبذة، وسيّر عامر ابن عبد قيس من البصرة إلى الشام؛ وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف؛ وتصدّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمهزون- موضع سوق المدينة- على المسلمين، فأقطعها الحرث بن الحكم أخا مروان؛ وأقطع فدك مروان، وهي صدقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وافتتح أفريقية؛ فأخذ خمس الفيء فوهبه لمروان؛ فقال عبد الرحمن بن حسل الجمحي:
فأحلف بالله ربّ الأنا ... م ما ترك الله شيئا سدى
ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو تبتلى
فإنّ الأمينين قد بيّنا ... منارا لحقّ عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة ... وما تركا درهما في هوى
وأعطيت مروان خمس العبا ... د هيهات شأوك ممّن شأى










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید