المنشورات

مقتل عثمان بن عفان

الرياشي عن الأصمعي قال: كان القواد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أربعة: عبد الرحمن بن عديس البلويّ، وحكيم بن جبلة العبدي، والأشتر النخعي، وعبد الله بن بديل الخزاعي، فقدموا المدينة فحاصروه، وحاصره معهم قوم من المهاجرين والأنصار حتى دخلوا عليه فقتلوه والمصحف بين يديه، وهو يقرأ يوم الجمعة صبيحة النحر، وأرادوا أن يقطعوا رأسه ويذهبوا به، فرمت نفسها عليه امرأتاه: نائلة بنت الفرافصة، و [رملة] ابنة شيبة بن ربيعة، فتركوه وخرجوا.
فلما كان ليلة السبت انتدب لدفنه رجال، منهم جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبد الله بن الزبير، فوضعوه على باب صغير، وخرجوا به إلى البقيع، ومعهم نائلة بنت الفرافصة بيدها السراج، فلما بلغوا به البقيع منعهم من دفنه فيه رجال من بني ساعدة، فردّوه إلى حشّ كوكب، فدفنوه فيه. وصلى عليه جبير بن مطعم؛ ويقال: حكيم بن حزام؛ ودخلت القبر نائلة بنت الفرافصة، وأم البنين بنت عيينة، زوجتاه، وهما دلّتاه في القبر.
والحش: البستان. وكان حش كوكب اشتراه عثمان، فجعله أولاده مقبرة للمسلمين.
يعقوب بن عبد الرحمن، عن محمد بن عيسى الدمشقي، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن محمد بن شهاب الزهري، قال: قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف قتل عثمان: ما كان شأن الناس وشأنه، ولم خذله أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم؟
فقال: قتل عثمان مظلوما، ومن قتله كان ظالما، ومن خذله كان معذورا.
قلت: وكيف ذاك؟
قال: إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيرا ما يولّي بني أمية، ممن لم يكن له من رسول الله صلّى الله عليه وسلم صحبة، وكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد، فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم؛ فلما كان في الحجج الآخرة استأمر بني عمه فخرجوا، فولاهم وأمرهم بتقوى الله وولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه. ومن قبل ذلك كانت من عثمان هناة إلى عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكانت هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان بما نال عمار بن ياسر، وجاء أهل مصر يشكون من ابن سرح، فكتب إليه عثمان كتابا يتهدد، فأبى ابن سرح أن يقبل ما نهاه عثمان عنه، وضرب رجلا ممن أتى عثمان فقتله، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح؛ فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بكلام شديد، وأرسلت إليه عائشة: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت أن تعزله، فهذا قد قتل منهم رجلا؛ فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه عليّ وكان متكلّم القوم. فقال: إنما سألوك رجلا مكان رجل، وقد ادّعوا قبله دما؛ فاعزله عنهم، واقض بينهم، وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم:
اختاروا رجلا أولّه عليكم مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر فقالوا:
استعمل علينا محمد بن أبي بكر. فكتب عهده وولّاه، وأخرج معهم عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح، فخرج محمد ومن معه؛ فلما كان على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط الأرض خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب! فقال: أنا غلام أمير المؤمنين، وجّهني إلى عامل مصر. فقالوا: هذا عامل مصر معنا. قال: ليس هذا أريد. وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه فأتي به؛ فقال له: غلام من أنت؟ قال: فأقبل مرة يقول: غلام أمير المؤمنين، ومرة: غلام مروان؛ حتى عرفه رجل منهم أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر. قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: معك كتاب؟ قال:
لا. ففتشوه فلم يوجد مع شيء إلا إداوة «1» قد يبست فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقّوا الإداوة، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه:
إذا جاءك محمد وفلان فاحتل لقتلهم، وأبطل كتابهم، وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي، واحتبس من جاء يتظلم منك، ليأتيك في ذلك رأيي إن شاء الله.
فلما قرءوا الكتاب فزعوا وعزموا على الرجوع إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتم القوم الذين أرسلوا معه، ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة، فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، وأقرءوهم الكتاب فلم يبق أحد في المدينة إلا حنق على عثمان، وازداد من كان منهم غاضبا لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر، غضبا وحنقا؛ وقام أصحاب النبي عليه السلام فلحقوا منازلهم، ما منهم أحد إلا وهو مغتمّ بما قرءوا في الكتاب، وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمّد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم وأعانه طلحة بن عبيد الله على ذلك، وكانت عائشة تحرّضه كثيرا، فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار، ونفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كلّهم بدريّ؛ ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، وقال له عليّ: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعير بعيرك؟ قال: نعم والخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت الكتاب؟ قال: لا! وحلف بالله: ما كتبت الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجهت الغلام إلى مصر قطّ. وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، فشكّوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان؛ فأبى؛ وكان مروان عنده في الدار؛ فخرج أصحاب محمد من عنده غضابا، وشكوا في أمر عثمان وعلموا أنه لا يحلف باطلا، إلا أن قوما قالوا: لا نبريء عثمان، إلا أن يدفع إلينا مروان، حتى نمتحنه ونعرف أمر هذا الكتاب، وكيف يأمر بقتل رجال من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمان كتبه عزلناه، وإن يك مروان كتبه على لسانه نظرنا في أمره. ولزموا بيوتهم، وأبي عثمان أن يخرج إليهم مروان وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء؛ فأشرف عليهم؛ فقال: أفيكم عليّ؟ قالوا: لا.
قال: فيكم سعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح من سببها عدة من موالي بن هاشم وبني أمية حتى وصل إليه الماء؛ فبلغ عليا أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا. وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه. وبعث الزبير ولده، وبعث طلحة ولده على كره منه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبناءهم ليمنعوا الناس أن يدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مروان. ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بالدماء على بابه، وأصاب مروان سهم في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشجّ قنبر مولى عليّ، وخشي محمد بن أبي بكر أن تغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها فأخذ بيدي رجلين فقال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن والحسين كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد، ولكن مروا بنا حتى نتسوّر «1» عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد. 
فتسوّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال: من دار عمرو ابن حزم الأنصاري، ومما يدل على ذلك قول الأحوص:
لا ترثينّ لحزميّ ظفرت به ... طرّا ولو طرح الحزمي في النار
الباخسين «1» بمروان بذي خشب ... والمدخلين على عثمان في الدار
فدخلوا عليه وليس معه إلا امرأته نائلة بنت الفرافصة؛ والمصحف في حجره، ولا يعلم أحد ممن كان معه، لأنهم كانوا على البيوت، فتقدّم إليه محمد [ابن أبي بكر] وأخذ بلحيته. فقال له عثمان: أرسل لحيتي يا بن أخي، فلو رآك أبوك لساءه مكانك! فتراخت يده عن لحيته، وغمز الرجلين فوجآه بمشاقص «2» معهما حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا؛ وخرجت امرأته فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل! فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحا؛ فأكبّوا عليه يبكون.
وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة: فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا؛ فاسترجعوا؛ وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسين وضرب صدر الحسن، وشتم محمد ابن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير؛ ثم خرج عليّ وهو غضبان، يرى أن طلحة أعان عليه، فلقيه طلحة فقال: مالك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال عليك وعليهما لعنة الله! يقتل أمير المؤمنين ورجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم بدريّ ولم تقم بينة ولا حجة؟ فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل. فقال: لو دفع مروان قتل قبل أن تثبت عليه حجة! وخرج عليّ فأتى منزله؛ وجاءه القوم كلهم يهرعون إليه:
أصحاب محمد وغيرهم، يقولون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فقال: ليس ذلك إلا لأهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليا، فقالوا: ما نرى أحدا أولى بها منك، فمدّ يدك نبايعك. فقال: أين طلحة والزبير؟ فكانا. أول من بايعه، طلحة بلسانه، وسعد بيده.
فلما رأى ذلك عليّ خرج إلى المسجد فصعد المنبر؛ فكان أول من صعد طلحة فبايعه بيده، وكانت أصبعه شلّاء، فتطير منها عليّ، وقال: ما أخلقه أن ينكث! ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب النبي جميعا؛ ثم نزل، ودعا الناس، وطلب مروان فهرب منه.
وخرجت عائشة باكية تقول: قتل عثمان مظلوما! فقال لها عمار: أنت بالأمس تحرضين عليه، واليوم تبكين عليه! وجاء عليّ إلى امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل رجلان لا أعرفهما إلا أن أرى وجوههما، وكان معهما محمد بن أبي بكر. وأخبرته بما صنع محمد بن أبي بكر؛ فدعا عليّ بمحمد، فسأله عما ذكرت امرأة عثمان، فقال محمد: لم تكذب؛ وقد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمت وأنا تائب، والله ما قتلته ولا أمسكته! فقالت امرأة عثمان:
صدق، ولكنه أدخلهما.
المعتمر عن أبيه عن الحسن، أن محمد بن أبي بكر أخذ بلحية عثمان، فقال له: يا ابن أخي؛ لقد قعدت مني مقعدا ما كان أبوك ليقعده! وفي حديث آخر أنه قال: يابن أخي، لو رآك أبوك لساءه مكانك! فاسترخت يده. وخرج محمد فدخل عليه رجل والمصحف في حجره، فقال له: بيني وبينك كتاب الله! فخرج وتركه، ثم دخل عليه آخر، فقال: بيني وبينك كتاب الله! فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها؛ فقال: أما إنها أول يد خطّت المفصّل «1» .












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید