المنشورات

ما نقم الناس على عثمان

ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا، من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلّة الأكابر من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، قالوا لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملك واختيارك لأمة محمد! قال: لم أظن هذا به! ودخل على عثمان فقال له: إني إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، وقد خالفتهما. فقال: عمر كان يقطع قرابته في الله، وأنا أصل قرابتي في الله، فقال له: لله عليّ أن لا أكلّمك أبدا! فمات عبد الرحمن وهو لا يكلّم عثمان.
ولما رد عثمان الحكم بن أبي العاص طريد النبي صلّى الله عليه وسلم وطريد أبي بكر وعمر إلى المدينة، تكلم الناس في ذلك، فقال عثمان: ما ينقم الناس مني؟ إني وصلت رحما وقرّبت قرابة.
حصين بن زيد بن وهب قال: مررنا بأبي ذرّ بالرّبذة، فسألناه عن منزله، فقال:
كنت بالشام، فقرأت هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
«1» فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب. فقلت:
إنها لفينا وفيهم فكتب إليّ عثمان: أقبل. فلما قدمت ركبتني الناس كأنهم لم يروني قط، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال: لو اعتزلت فكنت قريبا! فنزلت هذا المنزل، فلا أدع قولي، ولو أمّروا عليّ عبدا حبشيا لأطعت.
الحسن بن أبي الحسن عن الزبير بن العوام في هذه الآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
«2» . قال: لقد نزلت وما ندري من يختلف لها. فقال بعضهم: يا أبا عبد الله، فلم جئت إلى البصرة؟ قال: ويحك إننا ننظر ولا نبصر! أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: إن ناسا كانوا عند فسطاط «3» عائشة وأنا معهم بمكة، فمرّ بنا عثمان، فما بقي أحد من القوم إلا لعنه غيري؛ فكان فيهم رجل من أهل الكوفة، فكان عثمان على الكوفي أجرأ منه على غيره، فقال: يا كوفي، أتشتمني؟ فلما قدم المدينة كان يتهدده؛ قال: فقيل له: عليك بطلحة. قال: فانطلق معه حتى دخل على عثمان، فقال عثمان: والله لأجلدنه مائة سوط! قال طلحة: والله لا تجلده مائة إلا أن يكون زانيا. قال: والله لأحرمنّه عطاءه! قال: الله يرزقه.
ومن حديث ابن أبي قتيبة عن الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد وكان على بيت مال الكوفة، و [أمير] الكوفة الوليد بن عقبة ابن أبي معيط، فقال: يا أهل الكوفة، فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال: فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك، فنزعه عن بيت المال.
ومن حديث الأعمش يرويه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة، فقالوا: من يذهب بها إليه؟ قال عمار: أنا. فذهب بها إليه، فلما قرأها قال: أرغم الله أنفك، قال: وبأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوطئه حتى عشي عليه، ثم ندم عثمان، وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث: إما أن تعفو، وإما أن تأخذ الأرش «1» ، وإما أن تقتص. فقال: والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى الله! قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح، فقال: ما كان على عثمان أكثر مما صنع.
ومن حديث الليث بن سعد قال: مرّ عبد الله بن عمر بحذيفة، فقال: لقد اختلف الناس بعد نبيهم، فما منهم أحد إلا أعطى من دينه، ما عدا هذا الرجل.
وسئل سعد بن أبي وقاص عن عثمان، فقال: أما والله لقد كان أحسننا وضوءا وأطولنا صلاة، وأتلانا لكتاب الله، وأعظمنا نفقة في سبيل الله ثم ولي فأنكروا عليه شيئا، فأتوا إليه أعظم مما أنكروا.
وكتب عثمان إلى أهل الكوفة حين ولاهم سعيد بن العاص: أما بعد، فإني كنت وليتكم الوليد بن عقبة غلاما حين ذهب شرهه وثاب حلمه، وأوصيته بكم ولم أوصكم به، فلما أعيتكم علانيته طعنتم في سريرته؛ وقد وليتكم سعيد بن العاص وهو خير عشيرته، وأوصيكم به خيرا، فاستوصوا به خيرا.
وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وكان عامله على الكوفة، فصلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران، ثم التفت إليهم فقال: وان شئتم زدتكم! فقامت عليه البينة بذلك عند عثمان، فقال لطلحة: قم فاجلده. قال لم أكن من الجالدين. فقام إليه عليّ فجلده.
وفيه يقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ... لجمعت بين الشّفع والوتر «1»
مسكوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا، اجتمعوا إلى علي وسألوه أن يلقى لهم عثمان، فأقبل حتى دخل عليه فقال: إن الناس ورائي قد كلموني أن أكلمك؛ والله ما أدري ما أقول لك؛ ما أعرف شيئا تنكره، ولا أعلمك شيئا تجهله، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك؛ وما نبصّرك من عمى، وما نعلّمك من جهل، وإن الطريق لبيّن واضح، تعلم يا عثمان أن أفضل الناس عند الله إمام عدل هدي وهدى، فأحيا سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة؛ وأن شر الناس عند الله إمام ضلالة ضلّ وأضلّ، فأحيا بدعة مجهولة، وأمات سنة معلومة؛ وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالإمام الجائر يوم القيامة ليس معه ناصر ولا له عاذر، فيلقى في جهنم فيدور دور الرحى «2» ، يرتطم في غمرة النار إلى آخر الأبد. وأنا أحذرك أن تكون إمام هذه الأمّة المقتول، [فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام] يفتح به باب القتل والقتال إلى يوم القيامة يمرج بهم أمرهم ويمرجون. فخرج عثمان، ثم خطب خطبته التي أظهر فيها التوبة.
وكان عليّ كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان، أرسل ابنه الحسن إليه، فلما أكثر عليه قال له: إن أباك يرى أن أحدا لا يعلم ما يعلم، ونحن أعلم بما نفعل، فكف عنا! فلم يبعث عليّ ابنه في شيء بعد ذلك.
وذكروا أن عثمان صلى العصر ثم خرج إلى عليّ يعوده في مرضه ومروان معه، فرآه ثقيلا؛ فقال: أما والله لولا ما أرى منك ما كنت أتكلم بما أريد أن أتكلم به، والله ما أدري أي يوميك أحبّ إليّ أو أبغض، أيوم حياتك أو يوم موتك! أما والله لئن بقيت لا أعدم شامتا يعدّك كنفا «1» ، ويتخذك عضدا «2» ؛ ولئن مت لأفجعن بك؛ فحظي منك حظ الوالد المشفق من الولد العاق: إن عاش عقه، وإن مات فجعه! فليتك جعلت لنا من أمرك علما نقف عليه ونعرفه، إمّا صديق مسالم، وإمّا عدوّ معان، ولم تجعلني كالمختنق بين السماء والأرض، لا يرقى بيد، ولا يهبط برجل! أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خلفا، ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفا: وما أحب أن أبقى بعدك!. قال مروان: إي والله، وأخرى، إنه لا ينال ما وراء ظهورنا حتى تكسر رماحنا وتقطع سيوفنا؛ فما خير العيش بعد هذا؟ فضرب عثمان في صدره وقال: ما يدخلك في كلامنا؟ فقال عليّ: إني والله في شغل عن جوابكما، ولكني أقول كما قال أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ
«3» .
وقال عبد الله بن العباس: أرسل إليّ عثمان فقال لي: اكفني ابن عمّك! فقلت: إن ابن عمي ليس بالرجل يرى له ولكنه يرى لنفسه، فأرسلني إليه بما أحببت. قال: قل له فليخرج إلى ماله بينبع، فلا أغتم به ولا يغتم بي فأتيت عليا فأخبرته، فقال: ما اتّخذني عثمان إلا ناصحا. ثم أنشد يقول:
فكيف به أنّي أداوي جراحه ... فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء
أما والله إنه ليختبر القوم، فأتيت عثمان، فحدّثته الحديث كله إلا البيت الذي أنشده وقوله إنه ليختبر القوم؛ فأنشد عثمان:
فكيف به أنّي أداوي جراحه ... فيدوى فلا ملّ الدواء ولا الداء
وجعل يقول: يا رحيم انصرني! يا رحيم انصرني! يا رحيم انصرني! قال: فخرج عليّ إلى ينبع، فكتب إليه عثمان حين اشتدّ الأمر:
أمّا بعد، فقد بلغ السيل الزّبى «1» وجاوز الحزام الطّبيين، وطمع فيّ من كان يضعف عن نفسه:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب
فأقبل إليّ على أيّ أمريك أحببت، وكن لي أو عليّ، صديقا كنت أو عدوّا.
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولمّا أمزّق











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید