المنشورات

يوم الجمل

أبو اليقظان قال: قدم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين البصرة؛ فتلقاهم الناس بأعلى المربد، حتى لو رموا بحجر ما وقع إلا على رأس إنسان؛ فتكلم طلحة، وتكلمت عائشة، وكثر اللغط؛ فجعل طلحة يقول: أيها الناس، أنصتوا! وجعلوا يرهجون ولا ينصتون، فقال: أف! أف! فراش نار وذباب طمع! وكان عثمان بن حنيف الأنصاري عامل عليّ بن أبي طالب على البصرة، فخرج إليهم في رجاله ومن معه؛ فتواقفوا حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا وكتبوا بينهم كتابا: أن يكفوا عن القتال حتى يقدم عليّ بن أبي طالب، ولعثمان بن حنيف دار الإمارة، والمسجد الجامع، وبيت المال؛ فكفّوا.
ووجه علي بن أبي طالب الحسن ابنه، وعمار بن ياسر، إلى أهل الكوفة يستنفرانهم، فنفر معهما سبعة آلاف من أهل الكوفة؛ فقال عمار: أما والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لتتبعوه أو تتبعوها.
وخرج علي في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وراية عليّ مع ابنه محمد بن الحنفية، وعلى ميمنته الحسن، وعلى ميسرته الحسين، وعلى الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرّجالة محمد ابن أبي بكر، وعلى المقدمة عبد الله بن عباس؛ ولواء طلحة والزبير مع عبد الله بن حكيم بن حزام، وعلى الخيل طلحة بن عبيد الله وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير؛ فالتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد في النصف من جمادي الآخرة يوم الخميس، وكانت الوقعة يوم الجمعة.
وقالوا: لمّا قدم علي بن أبي طالب البصرة، قال لابن عباس: ائت الزبير ولا تأت طلحة؛ فإن الزبير ألين، وأنت تجد طلحة كالثور عاقصا «1» بقرنه يركب الصعوبة «2» ويقول هي أسهل؛ فأقرئه السلام وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق! فما عدا ما بدا؟.
قال ابن عباس: فأتيته فأبلغته، فقال: قل له: بيننا وبينك عهد خليفة ودم خليفة، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد، وأمّ مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، نحلّ ما أحلّت، ونحرّم ما حرّمت.
وقال علي بن أبي طالب: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى أدركه ابنه عبد الله فلفته عنا.
وقال طلحة لأهل البصرة وسألوه عن بيعة علي، فقال: أدخلوني في حشّ ثم وضعوا اللجّ على قفيّ فقالوا بايع وإلا قتلناك. قوله اللج: يريد السيف، وقوله قفي:
لغة طي، وكانت أمه طائية.
وخطبت عائشة أهل البصرة يوم الجمل فقالت: أيها الناس، صه صه!
الموعظة؛ لا يتّهمني إلا من عصى ربّه؛ ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحري ونحري؛ فأنا إحدى نسائه في الجنة، [له] ادّخرني ربي وسلّمني من كل بضع «1» ، وبي ميز بين منافقكم ومؤمنكم، وبي أرخص لكم في صعيد الأبواء؛ ثم أبي ثالث ثلاثة من المؤمنين، وثاني اثنين في الغار، وأول من سمّي صدّيقا؛ مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم راضيا عنه، وطوّقه طوق الإمامة؛ ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبي بطرفيه، ورتق «2» لكم أثناءه، فوقم «3» النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشّت «4» يهود؛ وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون، وتسمعون الصيحة، فرأب الثّأي «5» ، وأوذم «6» العطلة، وانتاش «7» من الهوّة، واجتحى «8» دفين الداء، حتى أعطن «9» الوارد، وأورد الصادر، وعلّ الناهل، فقبضه الله واطئا على هامات النفاق مذكيا نار الحرب للمشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله؛ ثم ولّى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيد ما بين اللابتين 1»
، عركة «11» للأذاة بجنبه، يقظان الليل في نصرة الإسلام؛ فسلك مسلك السابقة، ففرق شمل الفتنة وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسئلة عن مسيري هذا، لم ألتمس إثما، ولم أؤرّث «12» فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صدقا وعدلا وإعذارا وإنذارا، وأسأل الله أن يصلي على محمد، وأنه يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين.
وكتبت أمّ سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين إذ عزمت على الخروج إلى الجمل: من أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، إلى عائشة أم المؤمنين: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، إنك سدّة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته، وحجاب مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه «1» وسكّر خفارتك فلا تبتذليها. فالله من وراء هذه الأمة، ولو علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أما علمت أنه قد نهاك عن الفراطة «2» في البلاد فإن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع؟ جهاد النساء؛ غضن الأطراف، وضم الذيول، وقصر الوهازة. ما كنت قائلة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصّة «3» قعودا من منهل إلى منهل؟ وغدا تردين على رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وأقسم لو قيل لي: يا أمّ سلمة ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هاتكة حجابا ضربه عليّ فاجعليه سترك، ووقاعة البيت حصنك؛ فإنك أنصح ما تكونين لهذه الأمة ما قعدت عن نصرتهم؛ ولو أني حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنهشتني نهش الرقشاء «4» المطرقة والسلام.
فأجابتها عائشة:
من عائشة أم المؤمنين إلى أم سلمة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فما أقبلني لوعظك، وأعرفني لحق نصيحتك، وما أنا بمعتمرة «5» بعد تعريج، ولنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متشاجرتين من المسلمين، فإن أقعد ففي غير حرج، وإن أمض فإلى ما لا غنى بي عن الازدياد منه، والسلام.
وكتبت عائشة إلى زيد بن صوحان إذا قدمت البصرة:
من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان: سلام عليك؛ أما بعد، فإن أباك كان رأسا في الجاهلية، وسيدا في الإسلام وإنك من أبيك بمنزلة المصلّي من السابق، يقال: كاد أو لحق؛ وقد بلغك الذي كان في الإسلام من مصاب عثمان ابن عفان؛ ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر. فإذا أتاك كتابي هذا فثبّط «1» الناس عن علي بن أبي طالب، وكن مكانك حتى يأتيك أمري، والسلام.
فكتب إليها:
من زيد بن صوحان إلى عائشة أم المؤمنين، سلام عليك؛ أما بعد، فإنك أمرت بأمر وأمرنا بغيره: أمرت أن تقرّي في بيتك، وأمرنا أن نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة؛ فتركت ما أمرت به؛ وكتبت تنهيننا عما أمرنا به، والسلام.
وخطب علي رضي الله عنه بأهل الكوفة يوم الجمل إذا أقبلوا إليه مع الحسن بن علي، فقام فيهم خطيبا فقال:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين؛ أما بعد؛ فإن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم إلى الثقلين كافة، والناس في اختلاف؛ والعرب بشرّ المنازل، مستضعفون لما بهم، فرأب الله به الثأي، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمّن به السبيل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الموغرة للقلوب، والضغائن المشحنة «2» للصدور؛ ثم قبضه الله تعالى مشكورا سعيه. مرضيا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند الله نزله؛ فيا لها مصيبة عمت المسلمين، وخصت الأقربين، وولي أبو بكر، فسار فينا بسيرة رضا، رضي بها المسلمون؛ ثم ولي عمر، فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما؛ ثم ولي عثمان، فنال منكم ونلتم منه؛ ثم كان من أمره ما كان، فأتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم: لو بايعتنا! فقلت: لا أفعل، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك، وتداككتم عليّ تداكك «3» الإبل الهيم «4» على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتليّ وأن بعضكم قاتل بعضا فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني إلى العمرة، فسارا إلى البصرة فقاتلا بها المسلمين، وفعلا بها الأفاعيل وهما يعلمان والله أني لست بدون من مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت؛ اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي وألّبا عليّ عدوّي؛ اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا وأمّلا! وأملى علي بن محمد عن مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب، عن أبي الأسود عن أبيه، قال: خرجت مع عمران بن حصين وعثمان بن حنيف إلى عائشة فقلنا: يا أمّ المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك هذا: عهد عهده إليك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أم رأى رأيتيه؟ قالت: بل رأي رأيته حين قتل عثمان بن عفان، إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، ومواضع من الحمى حماها، وإمرة سعيد الوليد، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الثلاث الحرم: حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام؛ بعد أن مصتموه كما يماص «1» الإناء فغضبنا لكم من سوط عثمان؛ ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟! قلنا: ما أنت وسيفنا وسوط عثمان، وأنت حبيس رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟
أمرك أن تقرّي في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض! قالت: وهل أحد يقاتلني أو يقول غير هذا؟ قلنا: نعم. قالت: ومن يفعل ذلك؟ هل أنت مبلغ عني يا عمران؟ قال: لست مبلغا عنك حرفا واحدا. قلت: لكني مبلّغ عنك، فهات ما شئت قالت: اللهم اقتل مذمّما قصاصا بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عمارا بخفره «2» بعثمان.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن الأحنف بن قيس، قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحج، فانطلقت فأتيت طلحة والزبير، فقلت:
إني لا أرى هذا إلا مقتولا، فمن تأمراني به كما ترضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعليّ.
قلت: فتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. قال: ثم انطلقت حتى أتيت مكة، فبينما نحن بها إذ أتانا قتل عثمان، وبها عائشة أم المؤمنين فانطلقت إليها فقلت: من تأمريني أن أبايع، قالت: علي بن أبي طالب. قلت: أتأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم.
قال: فمررت على عليّ بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى البصرة وأنا أرى أن الأمر قد استقام، فما راعنا إلا قدوم عائشة أمّ المؤمنين، وطلحة والزبير، قد نزلوا جانب الخريبة «1» ، قال: فقلت: ما جاء بهم؟ [قالوا] : قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عثمان؛ إنه قتل مظلوما. قال: فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط؛ قلت: إن خذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لشديد! وإن قتال ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أمروني ببيعته لشديد، قال: فلما أتيتهم قالوا: جئناك نستصرخك على دم عثمان، قتل مظلوما! قال: فقلت: يا أم المؤمنين، أنشدك الله أقلت لك: من تأمريني به وترضينه لي؟ فقلت: عليّ! قالت بلى، ولكنه بدل. قلت: يا زبير، يا حواريّ رسول الله، ويا طلحة، نشدتكما بالله، أقلت لكما من تأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما: عليّ! قالا: بلى، ولكنه بدّل. قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين، ولا أقاتل عليّا ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولكن اختاروا مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي باب الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما يقضي، وإما أن ألحق بمكة فأكون بها، أو أعتزل فأكون قريبا. قالوا: نأتمر ثم نرسل إليك قال: فائتمروا. وقالوا: نفتح له باب الجسر فيلحق به المفارق والخاذل! أو يلحق بمكة فيفحشكم في قريش ويخبرهم بأخباركم! اجعلوه ههنا قريبا حيث تنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء من البصرة على فرسخين، واعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید