المنشورات

يوم صفين

أبو بكر بن أبي شيبة قال: خرج عليّ بن أبي طالب من الكوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين ألفا، وخرج معاوية من الشام في بضعة وثمانين ألفا، فالتقوا بصفين؛ وكان عسكر علي يسمى الزحزحة، لشدّة حركته؛ وعسكر معاوية يسمى الخضرية، لاسوداده بالسلاح والدروع.
أبو الحسن قال: كانت أيام صفين كلها موافقة ولم تكن هزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرّون.
أبو الحسن قال: كان منادي عليّ يخرج كل يوم وينادي: أيها الناس، لا تجهزنّ علي جريح، ولا تتّبعنّ مولّيا «2» ، ولا تسلبنّ قتيلا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن.
أبو الحسن قال: خرج معاوية إلى عليّ يوم صفين، ولم يبايعه أهل الشام بالخلافة، وإنما بايعوه على نصرة عثمان والطلب بدمه؛ فلما كان من أمر الحكمين ما كان، بايعوه بالخلافة؛ فكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان:
سلام عليك؛ أما بعد، فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره؛ و [قد] نصره طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر [والشورى] ، ونظيراك في الإسلام؛ وخفّت لذلك أمّ المؤمنين، فلا تكره ما رضوا، ولا تردّ ما قبلوا، وإنما نريد أن نردها شورى بين المسلمين والسلام. 
فأجابه سعد:
أما بعد، فإن عمر رضي الله عنه لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن عليا كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن؛ وهذا الأمر قد كرهنا أوله، وكرهنا آخره؛ وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما، والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت.
وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة:
أما بعد، فإنما أنت يهودي بن يهودي، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك؛ وإن ظفر أبغض الفريقين إليك قتلك ونكّل بك؛ وقد كان أبوك أوتر «1» قوسه ورمى غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، ثم مات طريدا بحوران.
فأجابه قيس:
أما بعد، فأنت وثني، ابن وثني دخلت في الإسلام كرها، وخرجت منه طوعا، لم يقدم إيمانك، ولم تحذر نفاقك؛ ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه وأعداء الدين الذي دخلت فيه! والسلام.
وخطب عليّ بن أبي طالب أصحابه يوم صفين، فقال:
أيها الناس، إن الموت طالب لا يعجزه هارب، ولا يفوته مقيم؛ اقدموا ولا تنكلوا «2» ، فليس عن الموت محيص «3» ، والذي نفس ابن أبي طالب بيده: إن ضربة سيف أهون من موت الفراش.
أيها الناس، اتقوا السيوف بوجوهكم، والرماح بصدوركم، وموعدي وإياكم الراية الحمراء «1» .
فقال رجل من أهل العراق: ما رأيت كاليوم خطيبا يخطبنا، يأمرنا أن نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح بصدورنا، ويعدنا راية بيننا وبينها مائة ألف سيف.
قال أبو عبيدة في التاج: جمع علي بن أبي طالب رياسة بكر كلها يوم صفين لحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة، وجعل ألويتها تحت لوائه، وكانت له راية سوداء يخفق ظلّها إذا أقبل، فلم يغن أحد في صفين غناءه؛ فقال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
يقدّمها في الصفّ حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السّمّ والدّما
جزى الله عني والجزاء بكفه ... ربيعة خيرا، ما أعفّ وأكرما
وكان من همدان في صفين [بلاء] حسن، فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لهمدان أخلاق ودين يزينهم ... وبأس إذا لاقوا وحسن كلام
فلو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
أبو الحسن قال: كان عليّ بن أبي طالب يخرج كل غداة لصفين في سرعان الخيل «2» ، فيقف بين الصفين ثم ينادي: يا معاوية، علام يقتتل الناس؟ ابرز اليّ أو أبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب. فقال له عمرو بن العاص: أنصفك الرجل! فقال له معاوية: أردتها يا عمرو! والله لا رضيت عنك حتى تبارز عليّا. فبرز إليه متنكرا؛ فلما غشيه عليّ بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته فضرب عليّ وجه فرسه وانصرف عنه؛ فجلس معه معاوية يوما فنظر إليه يضحك؛ فقال عمرو:
أضحك الله سنك؛ ما الذي أضحكك؟ قال: من حضور ذهنك يوم بارزت علياّ إذ اتّقيته بعورتك؛ أما والله لقد صادفت منّانا كريما؛ ولولا ذلك لخرم رفغيك «1» بالرمح. قال عمرو بن العاص: أما والله إني عن يمينك إذ دعاك إلى البراز، فاحولّت عيناك، وربا سحرك «2» وبدا منك ما أكره ذكره لك.
وذكر عمرو بن العاص عند علي بن أبي طالب؛ فقال فيه علي: عجبا لابن النابغة يزعم أني بلقائه أعافس «3» وأمارس، أما وشرّ القول أكذبه، إنه يسأل فيلحف ويسأل فيبخل؛ فإذا احمر البأس وحمى الوطيس وأخذت السيوف مأخذها من هام الرجال، لم يكن له هم إلا نزعه ثيابه ويمنح الناس استّه أغصه الله وترّحه.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید