المنشورات

أمر الحكمين

أبو الحسن قال: لما كان يوم الهرير، وهو أعظم يوم بصفين، زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم، حتى انتهوا إلى سرادق»
معاوية، فدعا بالفرس وهمّ بالهزيمة، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: ما عندك؟ قال: تأمر بالمصاحف فترفع في أطراف الرماح، ويقال: هذا كتاب الله يحكم بيننا وبينكم ...
فلما نظر أهل العراق إلى المصاحف، ارتدعوا واختلفوا: قال بعضهم: نحاكمهم إلى كتاب الله، وقال بعضهم: لا نحاكمهم، لأنا على يقين من أمرنا ولسنا على شك.
ثم أجمع رأيهم على التحكيم، فهمّ عليّ أن يقدّم أبا الأسود الدؤني، فأبى الناس عليه؛ فقال له ابن عباس: اجعلني أحد الحكمين، فو الله لأفتلنّ لك حبلا لا ينقطع وسطه، ولا ينشر طرفاه، فقال علي: لست من كيدك ولا من كيد معاوية في شيء؛ لا أعطيه إلا السيف حتى يغلبه الحق. قال: وهو والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلبك الباطل. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك تطاع اليوم وتعصي غدا، وإنه يطاع ولا يعصى!.
فلما انتشر عن علي أصحابه قال: لله بلاء ابن عباس، إنه لينظر إلى الغيب بستر رقيق.
قال: ثم اجتمع أصحاب البرانس «1» - وهم وجوه أصحاب علي- على أن يقدّموا أبا موسى الأشعري- وكان مبرنسا- وقالوا: لا نرضى بغيره. فقدّمه عليّ، وقدّم معاوية عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: إنك قد رميت برجل طويل اللسان قصير الرأي، فلا ترمه بعقلك كله.
فأخلي لهما مكان يجتمعان فيه. فأمهله عمرو بن العاص ثلاثة أيام، ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهّيه بها، حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه عمرو فقال له: يا أبا موسى، إنك شيخ أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، وذو فضلها وذو سابقتها؛ وقد ترى ما وقعت فيه هذه الأمّة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها؛ فهل لك أن تكون ميمون هذه الأمّة فيحقن الله بك دماءها، فإنه يقول في نفس واحدة وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً
«2» . فكيف بمن أحيا أنفس هذا الخلق كله؟
قال له: وكيف ذلك؟
قال: تخلع أنت عليّ بن أبي طالب، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان؛ ونختار لهذه الأمّة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمس يده فيها.
قال له: ومن يكون ذلك؟
وكان عمرو بن العاص قد فهم رأي أبي موسى في عبد الله بن عمر؛ فقال له:
عبد الله بن عمر.
فقال: إنه لكما ذكرت، ولكن كيف لي بالوثيقة منك؟
فقال له: يا أبا موسى، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
«1» ؛ خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى.
ثم لم يبق عمرو بن العاص عهدا ولا موثقا ولا يمينا مؤكدة حتى حلف بها، حتى بقي الشيخ مبهوتا، وقال له: قد أجبت! فنودى في الناس بالاجتماع إليهما فاجتمعوا.
فقال له عمرو: قم فأخطب الناس يا أبا موسى، فقال: قم أنت اخطبهم. فقال:
سبحان الله! أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحاب محمد! والله لا فعلت أبدا. قال: أو عسى في نفسك امر! - فزاده أيمانا وتوكيدا، حتى قام الشيخ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إني قد اجتمعت أنا وصاحبي على أن أخلع أنا عليّ بن أبي طالب، ويعزل هو معاوية بن أبي سفيان؛ ونجعل هذا الأمر لعبد الله بن عمر؛ فإنه لم يحضر في فتنة، ولم يغمس يده في دم امريء مسلم. ألا وإني قد خلعت عليّ بن أبي طالب كما أختلع سيفي هذا! ثم خلع سيفه من عاتقه وجلس، وقال لعمرو: قم. فقام عمرو بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
أيها الناس، إنه قد كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم، وإنه قد أشهدكم أنه خلع عليّ بن أبي طالب كما يخلع سيفه؛ وأنا أشهدكم أني قد أثبتّ معاوية بن أبي سفيان كما أثبت سيفي هذا!
وكان قد خلع سيفه قبل أن يقوم إلى الخطبة، فأعاده على نفسه؛ فاضطرب الناس وخرجت الخوارج.
وقال أبو موسى لعمرو: لعنك الله! فإنّ مثلك كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث! فقال عمرو: لعنك الله! فإن مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وخرج أبو موسى من فوره ذلك إلى مكة مستعيذا بها من عليّ، وحلف أن لا يكلمه أبدا؛ فأقام بمكة حينا حتى كتب إليه معاوية:
سلام عليك؛ أما بعد، فلو كانت النية تدفع الخطأ، لنجا المجتهد وأعذر الطالب؛ والحق لمن نصب «1» له فأصابه، وليس لمن عرض له فأخطأه؛ وقد كان الحكمان إذا حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختاره القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام، فإني خير لك من على؛ ولا قوّة إلا بالله.
فكتب إليه أبو موسى:
سلام عليك؛ أما بعد، فإني لم يكن مني في علي، إلا ما كان من عمرو فيك، غير أني أردت بما صنعت ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك، وقد كان بيني وبينه شروط وشورى عن تراض، فلما رجع عمرو رجعت؛ أما قولك إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما؛ فإنما ذلك في الشاة والبعير والدينار والدرهم، فأما أمر هذه الأمة فليس لأحد فيما تكره حكم، ولن يذهب الحقّ عجز عاجز ولا خدعة فاجر، وأما دعاؤك إياي إلى الشام فليس لي رغبة عن حرم إبراهيم.
فبلغ عليا كتاب معاوية إلى أبي موسى الأشعري، فكتب إليه:
سلام عليك؛ أما بعد، فإنك امرؤ ضلّلك الهوى، واستدرجك الغرور، [فإنه من استقال الله أقاله] ، حقق بك حسن الظنّ لزومك بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن، فاستل الله يقلك [عثرتك] فإن الله يغفر ولا يغفل، وأحب عباده إليه التوابون. وكتبه سماك بن حرب.
فكتب إليه أبو موسى:
سلام عليك؛ فإنه والله لولا أني خشيت أن يرفعك مني منع الجواب إلى أعظم مما في نفسك، لم أجبك؛ لأنه ليس لي عندك عذر ينفعني ولا قوّة تمنعني، وأما قولك ولزومي بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن، فإني اعتزلت أهل الشام وانقطعت عن أهل العراق، وأصبت أقواما صغّروا من ذنبي ما عظّمتم، وعظّموا من حقي ما صغّرتم؛ إذ لم يكن لي منكم وليّ ولا نصير.
وكان عليّ بن أبي طالب إذ وجه الحكمين قال لهما: إنما حكمنا كما بكتاب الله فتحييا ما أحيا القرآن، وتميتا ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص على أبي موسى، اضطرب الناس على عليّ واختلفوا، وخرجت الخوارج، وقالوا لا حكم إلا لله! فجعل علي يتمثل بهذه الأبيات:
لي زلة إليكم فأعتذر ... سوف أكيس بعدها وأنشمر «1»
وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
أبو الحسن قال: لما قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة، قال له معاوية: بلغني يا أبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين؛ فما كنت تحكم به؟ قال: لو جعلني أحدهما لجمعت ألفا من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألف من الأنصار وأبناء الأنصار ثم ناشدتهم الله: آلمهاجرون وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أو الطلقاء؟ قال له معاوية: لله أبوك! أيّ حكم كنت تكون لو حكّمت!











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید