المنشورات

احتجاج عليّ على أهل النهروان

قالوا: إن عليا لما اختلف عليه أهل النهروان والقرى وأصحاب البرانس، ونزلوا قرية يقال لها حروراء، وذلك بعد وقعة الجمل، فرجع إليهم علي بن أبي طالب فقال لهم: يا هؤلاء، من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء. قال: فليبرز إلي. فخرج إليه ابن الكواء، فقال له عليّ: يا بن الكواء، ما أخرجكم علينا بعد رضاكم بالحكمين، ومقامكم بالكوفة؟ قال: قاتلت بنا عدواّ لا نشك في جهاده، فزعمت أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، فبينما نحن كذلك، إذ أرسلت منافقا، وحكّمت كافرا، وكان مما شكك في أمر الله أن قلت للقوم حين دعوتهم: كتاب الله بيني وبينكم، فإن قضى عليّ بايعتكم، وإن قضى عليكم بايعتموني. فلولا شكّك لم تفعل هذا والحقّ في يدك. فقال عليّ: يا بن الكواء، إنما الجواب بعد الفراغ؛ أفرغت فأجيبك؟ قال: نعم. قال علي: أما قتالك معي عدّوا لا تشك في جهاده فصدقت، ولو شككت فيهم لم أقاتلهم؛ وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله في ذلك ما يستغنى به عن قولي؛ وأما إرسالي المنافق وتحكيمي الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسا، ومعاوية حكّم عمرا، أتيت بأبي موسى مبرنسا، فقلت: لا نرضى إلا أبا موسى! فهلا قام إلى رجل منكم فقال: يا علي، لا تعط هذه الدنية فإنها ضلالة؟ وأما قولي لمعاوية: إن جرّني إليك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إليّ تبعتني؛ زعمت أني لم أعط ذلك إلا من شك، فقد علمت أن أوثق ما في يديك هذا الأمر، فحدّثني ويحك عن اليهودي والنصراني ومشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام؟
قال: بل معاوية وأهل الشام أقرب.
قال علي: أفرسول الله صلّى الله عليه وسلم كان أوثق بما في يديه من كتاب الله أو أنا؟
قال: بل رسول الله.
قال: أفرأيت الله تبارك وتعالى حين يقول: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
«1» ؛ أما كان رسول الله يعلم أنه لا يؤتي بكتاب هو أهدى مما في يديه؟ قال: بلى. قال: فلم أعطى رسول الله القوم ما أعطاهم؟ قال: إنصافا وحجة. قال: فإني أعطيت القوم ما أعطاهم رسول الله. قال ابن الكواء: فإني أخطأت، هذه واحدة، زدني.
قال علي: فما أعظم ما نقمتم عليّ؟ قال تحكيم الحكمين؛ نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمهما شكا وتبذيرا.
قال علي: فمتى سمّي أبو موسى حكما: حين أرسل، أو حين حكم؟ قال: حين أرسل قال: أليس قد سار وهو مسلم، وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم.
قال عليّ: فلا أرى الضلال في إرساله. فقال ابن الكواء: سمّي حكما حين حكم قال: نعم، إذا فإرساله كان عدلا، أرأيت يابن الكواء لو أن رسول الله بعث مؤمنا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب الله فارتدّ على عقبه كافرا، كان يضرّ نبيّ الله شيئا؟ قال: لا. قال علي: فما كان ذنبي إن كان أبو موسى ضلّ، هل رضيت حكومته حين حكم، أو قولّه إذ قال؟
قال ابن الكواء: لا، ولكنك جعلت مسلما وكافرا يحكمان في كتاب الله.
قال عليّ: ويلك يا ابن الكوّاء! هل بعث عمرا غير معاوية؟ وكيف أحكمّه وحكمه على ضرب عنقي؟ إنما رضي به صاحبه كما رضيت أنت بصاحبك، وقد يجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله؛ أرأيت لو أن رجلا مؤمنا تزوج يهودية أو نصرانية فخافا شقاق بينهما، ففزع الناس إلى كتاب الله وفي كتابه: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها
«1» ، فجاء رجل من اليهود ورجل من النصارى ورجل من المسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله، فحكما.
قال ابن الكواء: وهذه أيضا، أمهلنا حتى ننظر. فانصرف عنهم علي، فقال له صعصعة بن صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لي في كلام القوم. قال: نعم ما لم تبسط يدا. قال: فنادى صعصعة ابن الكواء؛ فخرج إليه فقال: أنشدكم بالله يا معشر الخارجين، أن لا تكونوا عارا على من يغزو لغيره، وأن لا تخرجوا بأرض تسمّوا بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام خشية ضلال عام قابل. فقال ابن الكواء: إنّ صاحبك لقينا بأمر قولك فيه صغير، فأمسك.
قالوا: إن عليا خرج بعد ذلك إليهم فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يا ابن الكواء إنه من أذنب في هذا الدين ذنبا يكون في الإسلام حدثا استتبناه من ذلك الذنب بعينه، وإن توبتك أن تعرف هدى ما خرجت منه، وضلال ما دخلت فيه.
قال ابن الكواء: إننا لا ننكر أنا قد فتنّا. فقال له عبد الله بن عمرو بن جرموز:
أدركنا والله هذه الآية الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ
«2» . وكان عبد الله من قراء أهل حروراء، فرجعوا فصلوا خلف عليّ الظهر، وانصرفوا معه إلى الكوفة، ثم اختلفوا بعد ذلك في رجعتهم ولام بعضهم بعضا، فقال زيد بن عبد الله الراسي، وكان من أهل حروراء، يشككهم:
شككتم ومن أرسى ثبيرا مكانه ... ولو لم تشكّوا ما انثنيتم عن الحرب
وتحكيمكم عمرا على غير توبة ... وكان لعبد الله خطب من الخطب
فأنكصّه للعقب لمّا خلا به ... فأصبح يهوي من ذرى حالق صعب «1»
وقال الرياحي:
ألم تر أنّ الله أنزل حكمه ... وعمرو وعبد الله مختلفان
وقال مسلم بن يزيد الثقفي، وكان من عباد حروراء:
وإن كان ما عبناه عيبا فحسبنا ... خطايا بأخذ النّصح من غير ناصح
وإن كان عيبا فاعظمنّ بتركنا ... عليّا على أمر من الحقّ واضح
ونحن أناس بين بين وعلنا ... سررنا بأمر غبّه غير صالح
ثم خرجوا على عليّ فقتلهم بالنهروان.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید