المنشورات

خروج عبد الله بن عباس على عليّ

قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان عبد الله بن عباس من أحبّ الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، ولم يستعمله قط، فقال له يوما: كدت أستعملك، ولكن أخشى أن تستحل الفيء «2» على التأويل! فلما صار الأمر إلى عليّ استعمله على البصرة، فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
واستحله من قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وروى أبو مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عبيد قال: مرّ ابن عباس على أبي الأسود الدؤلي، فقال له: لو كنت من البهائم لكنت جملا ولو كنت راعيا ما بلغت المرعى فكتب أبو الأسود الدؤلي إلى عليّ:
أما بعد، فإنّ الله جعلك واليا مؤتمنا، وراعيا مسئولا، وقد بلوناك رحمك الله فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحّا للأمة؛ توفّر لهم فيئهم، وتكف نفسك عن دنياهم فلا تأكل أموالهم، ولا ترتشي بشيء في أحكامهم. وابن عمك قد أكل ما تحت يديه من غير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما هنالك، واكتب إليّ برأيك، فما أحببت أتّبعه إن شاء الله، والسلام.
فكتب إليه عليّ:
أما بعد، فمثلك نصح الإمام والأمة، [وادّى الأمانة] ووالي على الحق، وفارق الجور؛ وقد كتبت لصاحبك بما كتبت إليّ فيه [من أمره] ، ولم أعلمه بكتابك إليّ، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك، مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب لله عليك، والسلام.
وكتب عليّ إلى ابن عباس:
أما بعد، فإنه قد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت الله، وأخزيت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين. بلغني أنك جردت «1» الأرض وأكلت ما تحت يدك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام.
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فإن كل الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي ضابط، وعليه حافظ، فلا تصدق عليّ الظنين، والسلام.
فكتب إليه عليّ: أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية: من أين أخذته؟ وما وضعت منها: أين وضعته؟ فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك إياه، فإن المتاع بما أنت رازمه «2» قليل، وتباعته وبيلة لا تبيد، والسلام.
فلما رأى أن عليا غير مقلع عنه كتب إليه: أما بعد، فإنه بلغني تعظيمك عليّ مرزئة مال بلغك أني رزأته «1» أهل هذه البلاد، وأيم الله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها «2» ومخبئها، وبما على ظهرها من طلاعها «3» ذهبا، أحبّ إليّ من أن ألقى الله وقد سفكت دماء هذه الأمة لأنال بذلك الملك والإمرة. ابعث إلى عملك من أحببت، فإني ظاعن، والسلام.
فلما أراد عبد الله المسير من البصرة دعا أخواله بني هلال بن عامر بن صعصعة ليمنعوه، فجاء الضحاك بن عبد الله الهلالي فأجاره، ومعه رجل منهم يقال له عبد الله بن رزين، وكان شجاعا بئيسا «4» ؛ فقالت بنو هلال: لا غنى بنا عن هوازن فقالت هوازن: لا غنى بنا عن سليم. ثم أتتهم قيس، فلما رأى اجتماعهم له حمل ما كان في بيت مال البصرة، وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف، فجعله في الغرائر.
قال: فحدثني الأزرق اليشكري، قال: سمعت أشياخنا من أهل البصرة قالوا: لما وضع المال في الغرائر ثم مضى به، تبعته الأخماس كلها بالطفّ «5» ، على أربعة فراسخ من البصرة، فواقفوه، فقالت لهم قيس: والله لا تصلون إليه ومنا عين تطرف. فقال صبرة [بن شيمان] ، وكان رأس الأزد: والله إن قيسا لإخوتنا في الإسلام، وجيراننا في الدار، وأعواننا على العدوّ وإن الذي تذهبون به من المال لو ردّ عليكم لكان نصيبكم منه الأقلّ، وهو [غدا] خير لكم من المال. قالوا: فما ترى؟ قال:
انصرفوا عنهم.
فقال بكر بن وائل وعبد القيس: نعم الرأي رأي صبرة واعتزلوهم.
فقالت بنو تميم: والله لا نفارقهم حتى نقاتلهم عليه. فقال الأحنف بن قيس: أنتم والله أحق أن لا تقاتلوهم عليه، وقد ترك قتالهم من هو أبعد منكم رحما! قالوا:
والله لنقاتلنهم! فقال: والله لا أساعدكم على قتالهم. وانصرف عنهم.
فقدموا عليهم ابن مجاعة فقاتلهم، فحمل عليه الضحاك بن عبد الله فطعنه في كتفه فصرعه، فسقط إلى الأرض بغير قتل. وحمل سلمة بن ذؤيب السعدي على الضحاك فصرعه أيضا، وكثرت بينهم الجراح من غير قتل.
فقال الأخماس الذين اعتزلوا: والله ما صنعتم شيئا، اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يتشاجرون. فجاؤا حتى صرفوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم: والله إن هذا للؤم قبيح، لنحن أسخى أنفسا منكم حين تركنا أموالنا لبني عمكم وأنتم تقاتلونهم عليها، خلوا عنهم وأرواحهم، فإن القوم فدحوا «1» . فانصرفوا عنهم.
ومضى معه ناس من قيس، فيهم الضحاك بن عبد الله، وعبد الله بن رزين، حتى قدموا الحجاز فنزل مكة، فجعل راجز لعبد الله بن عباس يسوق له في الطريق ويقول:
صبّحت من كاظمة القصر الخرب ... مع ابن عباس بن عبد المطلب «2»
وجعل ابن عباس يرتجز ويقول:
آوي إلى أهلك يا رباب ... آوي فقد حان لك الإياب
وجعل أيضا يرتجز ويقول:
وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن يصدق الطير ننك لميسا «3»
فقال له: يا أبا العباس، أمثلك يرفث «4» في هذا الموضع؟ قال: إنما الرفث ما يقال عند النساء.
قال أبو محمد: فلما نزل مكة اشترى من عطاء بن جبير مولى بني كعب من جواريه ثلاث مولدات حجازيات يقال لهن: شادن، وحوراء، وفتون، بثلاثة آلاف دينار.
وقال سليمان بن أبي راشد عن عبد الله بن عبيد عن أبي الكنود، قال: كنت من أعوان عبد الله بالبصرة، فلما كان من أمره ما كان أتيت عليا فأخبرته فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ
«1» .
ثم كتب علي إليه:
أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، [وجعلتك شعاري وبطانتي] ، ولم يكن من أهل بيتي رجل أوثق عندي منك، لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة [إليّ] ؛ فلما رأيت الزمان قد كلب على ابن عمك، والعدوّ قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فنكت [وشغرت] ، قلبت لابن عمّك ظهر المجن «2» ، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان وخنته مع من خان، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة إليه أدّيت؛ كأنك لم تكن على بينة من ربّك، و [كأنك] إنما كنت [تكيد] أمة محمد عن دنياهم، و [تنوي] غرّتهم عن فيتهم، فلما أمكنتك الفرصة في خيانة الأمة، أسرعت الغدرة، وعاجلت الوثبة، فاختطفت ما قدرت عليه من أموالهم، وانقلبت بها إلى الحجاز، كأنك إنما حزت على أهلك ميراثك من أبيك وأمك؛ سبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراما، وتشرب حراما، وتشتري الإماء وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين في سبيل الله التي أفاء الله عليهم؟
فاتق الله وأدّ إلى القوم أموالهم: فإنك والله لئن لم تفعل وأمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك: فو الله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما، والسلام.
فكتب إليه ابن عباس:
أما بعد، فقد بلغني كتابك تعظّم عليّ أمانة المال الذي أصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إنّ حقي في بيت مال الله أكثر من الذي أخذت! والسلام.
فكتب إليه عليّ:
أما بعد، فإن العجب كل العجب منك إذ ترى لنفسك في بيت مال الله أكثر مما لرجل من المسلمين؛ قد أفلحت إن كان تمنّيك الباطل وادعاءك ما لا يكون، ينجيك من الإثم ويحلّ لك ما حرم الله عليك؛ عمرك الله! إنك لأنت البعيد، وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا، وضربت بها عطنا «1» ، تشتري المولدات من المدينة والطائف، وتختارهن على عينك، وتعطي بهن مال غيرك؛ وإني أقسم بالله وربك ربّ العزة ما أحب أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أدعه ميراثا لعقبى، فما بال اغتباطك به تأكله حراما. ضحّ رويدا، فكأنك قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي فيه المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيّع التوبة والظالم الرجعة! فكتب إليه ابن عباس:
والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملّته إلى معاوية يقاتلك به.
فكفّ عنه عليّ.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید