المنشورات

أخبار معاوية

قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة، فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة ابنة عثمان وبكت ونادت أباها؛ فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلّا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني ابنة عمّ أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس! القحذمي قال: لما قدم معاوية المدينة قال:
أيها الناس، إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فنال منها ونالت منها، وأما أنا فمالت بي وملت بها، وأنا ألينها فهي أمّي وأنا ابنها، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم. ثم نزل.
قال جويرية بن أسماء: نال بسر بن أرطأة من علي بن أبي طالب عند معاوية، وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلا بسرا ضربا حتى شجه؛ فقال معاوية: يا زيد، عمدت إلى شيخ [من] فريش سيد أهل الشام فضربته! وأقبل على بسر وقال:
تشتم عليا وهو جدّه، وأبوه الفاروق، على رءوس الناس! أفكنت تراه يصبر على شتم عليّ؟
وكانت أمّ زيد: أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب.
ولما قدم معاوية مكة، وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني إنه قلّما ولدت حرّة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته؟
ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا، فرفعهم سبقهم، وقصّر بنا تأخّرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة؛ وقد قلدوك جسيما من أمرهم، فلا تخالفنّ رأيهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه! قال معاية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
العتبى عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قدم الشام على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب نبيل، فجاوز عمر حتى أخبر، فرجع إليه، فلما قرب منه نزل [إليه] فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل! فأقبل عليه عمر، فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك؟
قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبهة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت.
قال: لئن كان الذي قلت حقا فإنه رأي أريب «1» ، ولئن كان باطلا فإنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه.
فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه.
قال: لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشمناه.
وقال معاوية لابن الكواء. يا ابن الكواء، أنشدك الله ما علمك فيّ؟ قال: أنشدني الله، ما أعلمك إلا واسع الدنيا ضيّق الآخرة! ولما مات الحسن بن علي، حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقيل له: إن ههنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا، فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك، فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثم لا أعود إليه! فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد، فلما مات لعنه على المنبر وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا. فكتبت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى معاوية:
إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله.
فلم يلتفت إلى كلامها.
وقال بعض العلماء لولده: يا بنيّ، إن الدنيا لم تبن شيئا إلا هدمه الدين، وإن الدّين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، ألا ترى أن قوما لعنوا عليا ليخفضوا منه فكأنما أخذوا بناصيته جرّا إلى السماء! ودخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره، فقال: وسّع له على ترابيّة فيه! فقال صعصعة: إني والله لترابي، منه خلقت، وإليه أعود، ومنه أبعث؛ وإنك لمارج «1» من مارج من نار! العتبي عن أبيه: قال معاوية يوما لعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟ قال: غلبة من لا حقّ له ذا الحق على حقه. قال معاوية: أعجب من ذلك أن يعطى من لا حقّ له ما ليس له بحقّ من غير غلبة! وقال معاوية: أعنت على عليّ بأربعة، كنت أكتم سرّي، وكان رجلا يظهره؛ وكنت في أصلح جند وأطوعه، وكان في أخبث جند وأعصاه؛ وتركته وأصحاب الجمل وقلت: إن ظفروا به كانوا أهون عليّ منه، وإن ظفر بهم اغتر بها في دينه! وكنت أحبّ إلى قريش منه؛ فيالك من جامع إليّ ومفرّق عنه! العتبي قال: أراد معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة «2» ، فكره ذلك يزيد، فأبى معاوية إلا أن يفعل، فكتب إليه يزيد يقول: 
نجيّ لا يزال يعد ذنبا ... لتقطع وصل حبلك من حبالي «1»
فيوشك أن يريحك من أذاتي ... نزولي في المهالك وارتحالي
وتجهز للخروج، فلم يتخلف عنه أحد، حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال العتبي: وحدثني أبو إبراهيم قال: أرسل معاوية إلى ابن عباس، قال: يا أبا العباس، إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقرّبك، وتشير عليه برأيك؛ ولا يدخل الناس بينك وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه؛ وأقلّ من ذكر حقك، فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبا، وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره، مع أنه صائر إليك، وكل آت قريب، ولتجدنّا إذا كان ذلك خيرا لكم منا.
فقال ابن عباس: والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد، وأما ما سألتني من الكف عن ذكر حقي، فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني. ولئن صار هذا الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك، لا يرى أهلك إلا ما يحبون.
قال: فخرج يزيد، فلما صار على الخليج «2» ثقل أبو أيوب الأنصاري فأتاه يزيد عائدا، فقال: ما حاجتك أبا أيوب؟ فقال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن قدّمني ما استطعت في بلاد العدو، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «يدفن عند سور القسطنطينية رجل صالح؛ أرجو أن أكون هو! ... » .
فلما مات أمر يزيد بتكفينه، وحمل على سريره، ثم أخزج الكتائب، فجعل قيصر يرى سريرا يحمل والناس يقتتلون فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أرى؟
قال: صاحب نبينا، وقد سألنا أن نقدمه في بلادك، ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله.
فأرسل إليه: العجب كل العجب! كيف يدهّي «1» الناس أباك وهو يرسلك فتعمد إلى صاحب نبيك فتدفنه في بلادنا، فإذا ولّيت أخرجناه إلى الكلاب؟
فقال يزيد: إني والله ما أردت أن أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، ولئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثّل به لا تركت بأرض العرب نصرانيا إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها! فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك، فوحقّ المسيح لأحفظنّه بيدي سنة فلقد بلغني أنه بنى على قبره قبّة يسرج فيها إلى اليوم.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید