المنشورات

طلب معاوية البيعة ليزيد

أبو الحسن المدائني قال: لما مات زياد، وذلك سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهدا مفتعلا فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وإنما أراد أن يسهل بذلك بيعة يزيد، فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطي الأقارب ويداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس فقال؛ لعبد الله بن الزبير: ما ترى في بيعة يزيد؟
قال: يا أمير المؤمنين إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم، وتفكّر قبل أن تندّم، فإن النظر قبل التقدّم، والتفكر قبل التندم.
فضحك معاوية وقال: ثعلب رواغ! تعلمت السجع عن الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك.
ثم التفت إلى الأحنف فقال: ما ترى في بيعة يزيد؟
قال: نخافكم إن صدّقناكم، ونخاف الله إن كذبنا.
فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم، وكان فيمن وقد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية وقال له: ما ترى في بيعة يزيد؟
فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إليّ رشدا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسطا في الحسب، وإن الله سائل كلّ راع عن رعيته، فاتق الله وانظر من تولّي أمة محمد.
فأخذ معاوية بهر «1» حتى تنفس الصعداء وذلك في يوم شات، ثم قال: يا محمد، إنك امرؤ ناصح قلت برأيك، ولم يكن عليك إلا ذاك. قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم؛ اخرج عني! ثم جلس معاوية في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فكان أول من تكلم الضحاك بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك، والأنفس يغدى عليها ويراح، وإن الله قال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
«2» ، ولا ندري ما يختلف به العصران؛ ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن معدنه وقصد «3» سيرته، من أفضلنا حلما وأحكمنا علما، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، فإنا قد بلونا الجماعة والألفة، فوجدناها أحقن للدماء، وآمن للسبل، وخيرا في العاقبة والآجلة.
ثم تكلم عمرو بن سعيد فقال:
أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع إذا صرتم إلى عدله وسعكم، وإن طلبتم رفده أغناكم؛ جدع قارح «4» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه.
فقال: اجلس أبا أمية، فلقد أوسعت وأحسنت.
ثم قام يزيد بن المقنّع فقال:
أمير المؤمنين هذا- وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا- وأشار إلى يزيد- فمن أبي فهذا- وأشار إلى سيفه:
فقال معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء.
ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال:
يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا، ولهذه الأمة، فلا تشاور الناس فيه؛ وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.
قال: فتفرق الناس ولم يذكروا إلا كلام الأحنف.
قال: ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية، فقال رجل وقد دعي إلى البيعة: اللهم إني أعوذ بك من شرّ معاوية.
فقال له معاوية: تعوّذ من شرّ نفسك، فإنه أشدّ عليك، وبايع.
قال: إني أبايع وأنا كاره للبيعة.
قال له معاوية: بايع أيها الرجل، فإن الله يقول: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
«1» .
ثم كتب إلى مروان بن الحكم عامله على المدينة أن ادع أهل المدينة إلى بيعة يزيد؛ فإن أهل الشام والعراق قد بايعوا.
فخطبهم مروان فحضّهم على الطاعة وحذّرهم الفتنة، ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال: سنة أبي بكر الهادية المهدية.
فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر: كذبت، إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة وبايع لرجل من بني عدي رضي دينه وأمانته، واختاره لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم.
فقال مروان: أيها الناس، إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي
«1» .
فقال له عبد الرحمن: يا بن الزرقاء، أفينا تتأوّل القرآن؟
وتكلم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر وأنكروا بيعة يزيد، وتفرق الناس.
فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فخرج معاوية إلى المدينة في ألف، فلما قرب منها تلقاه الناس، فلما نظر إلى الحسين قال: مرحبا بسيد شباب المسلمين، قرّبوا دابة لأبي عبد الله.
وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبا بشيخ قريش وسيّدها وابن الصدّيق.
وقال لابن عمر: مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق.
وقال لابن الزبير: مرحبا بابن جواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمته، ودعا لهم بدوابّ فحملهم عليها، وخرج حتى أتى مكة فقضى حجّه.
ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله «2» فقدّمت، وأمر بالمنبر فقرّب من الكعبة، وأرسل إلى الحسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير، فاجتمعوا وقالوا لابن الزبير: اكفنا كلامه. فقال: علي أن لا تخالفوني. قالوا: لك ذلك. ثم أتوا معاوية، فرحب بهم وقال لهم قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم؛ ويزيد أخوكم وابن عمّكم، وإنما أردت أن أقدّمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون: فسكتوا، وتكلم ابن الزبير، فقال:
نخيّرك بين إحدى ثلاث، أيّها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار: إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبضه الله ولم يستخلف [أحدا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر] ؛ فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم؛ وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأذنين، من كان لها أهلا؛ وإن شئت فما صنع عمر، صيّرها إلى ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا.
قال معاوية: هل غير هذا؟
قال: لا.
ثم قال للآخرين: ما عندكم؟
قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير.
فقال معاوية: إني أتقدم إليكم وقد أعذر من أنذر إني قائل مقالة، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقي إلا عليها.
وأمر أن يقوم على رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يرد بها عليه قوله قتلاه، وخرج وأخرجهم معه حتى رقي المنبر، وحف به أهل الشام واجتمع الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، قالوا: إن حسينا وابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم: لا نبرم أمرا دونهم، ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم؛ وإني دعوتهم فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا وسلّموا وأطاعوا. فقال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ ائذن لنا فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية: فقال معاوية: سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالشرّ، وأحلى دماءهم عندهم! أنصتوا، فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوا، ثم قرّبت رواحله فركب ومضى.
فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم! قالوا: لم نفعل.
قالوا: بلى، قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟
قالوا: خفنا القتل، وكادكم بنا وكادنا بكم «1» .












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید