المنشورات

وفاة معاوية

عن الهيثم بن عدي قال: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا الضحاك بن قيس الفهري، ومسلم بن عقبة المري، فقال:
أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر إلى أهل الحجاز، فهم أصلك وعترتك؛ فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله، فإنّ عزل عامل واحد أهون من سلّ مائة ألف سيف، [ثم] لا تدري على من تكون الدائرة؛ ثم انظر إلى أهل الشام، فاجعلهم الشعار دون الدثار «2» ؛ فإن رابك من عدوّك ريب فارمه بهم، ثم اردد أهل الشام إلى بلدهم ولا يقيموا في غيره فيتأدّبوا بغير أدبهم؛ لست أخاف عليك إلا ثلاثة: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر. فأما الحسين ابن علي فأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه؛ وأما ابن الزبير فإنه خبّ ضب «3» ، فإن ظفرت به فقطّعه إربا إربا؛ وأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذه «4» الورع، فخلّ بينه وبين آخرته يخلّ بينك وبين دنياك.
ثم أخرج إلى يزيد بريدا بكتاب يستقدمه ويستحثه، فخرج مسرعا، فتلقاه يزيد فأخبره بموت معاوية، فقال يزيد:
جاء البريد بقرطاس يخبّ به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنّ أغبر من أركانها انقلعا
ثمّ انبعثنا إلى خوص مزمّمة ... نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا «5»
فما نبالي إذا بلّغن أرحلنا ... ما مات منهنّ بالموماة أو ظلعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كذاك كنّا جميعا قاطنين معا
أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
لا يرقع الناس ما أوهى ولو جهدوا ... أن يرقعوه، ولا يوهون ما رقعا
قال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: سرق هذين البيتين من الأعشى.
ابن دأب قال: لما هلك معاوية خرج الضحاك بن قيس الفهري وعلى عاتقه ثياب حتى وقف إلى جانب المنبر، ثم قال:
أيها الناس، إن معاوية كان إلف العرب وملكها؛ فأطفأ الله به الفتنة وأحيا به السنة، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها ومخلّون بينه وبين ربه؛ فمن أراد حضوره صلاة الظهر فليحضره.
وصلّى عليه الضحاك بن قيس الفهري، ثم قدم يزيد من يومه ذلك، فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فقال:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا «1»
لارزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبي كعقباكا «2»
أصبحت راعي أهل الأرض كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا
فافتتح الخطباء الكلام.
ثم دخل يزيد فأقام ثلاثة أيام لا يخرج للناس، ثم خرج وعليه أثر الحزن، فصعد المنبر، وأقبل الضحاك فجلس إلى جانب المنبر، وخاف عليه الحصر، فقال له يزيد:
يا ضحاك، أجئت تعلّم بني عبد شمس الكلام؟ ثم قام خطيبا فقال:
الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن معاوية بن أبي سفيان كان حبلا من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمدّه، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه، وكان دون من قبله، وخيرا ممن يأتي بعده، ولا أزكّيه وقد صار إلى ربه، فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعذبه فبذنبه؛ وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا أني عن طلب؛ وعلى رسلكم، إذا كره الله شيئا غيّره وإذا أراد شيئا يسّره.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید