المنشورات

وقعة الحرّة

أبو اليقظان قال: لما حضرت معاوية الوفاة دعا يزيد، فقال: إن لك من أهل المدينة يوما، فإذا فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفنا نصيحته.
فلما كان سنة ثلاث وستين، قدم عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة عاملا عليها ليزيد بن معاوية، وأوفد على يزيد وفدا من رجال المدينة، فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، ومعه ثمانية بنين، فأعطاه مائة ألف، وأعطى بنيه كلّ رجل منهم عشرة آلاف، سوى كسوتهم وحملانهم «1» ؛ فلما قدم عبد الله بن حنظلة المدينة، أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟
قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم! قالوا: فإنه قد بلغنا أنه أكرمك وأجازك وأعطاك! 
قال: قد فعل، وما قبلت ذلك منه إلا أن أتقوى به عليه. أي على قتال يزيد.
وحضّ الناس على يزيد، فأجابوه، فكتب عثمان بن محمد إلى يزيد بما أجمع عليه أهل المدينة من الخلاف، فكتب إليهم يزيد بن معاوية.
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد؛ ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ
«1» وإني قد لبستكم فأخلقتكم ورفعتكم على رأسي، ثم على عيني، ثم على فمي، ثم علي بطني؛ والله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقلّ بها عددكم، وأترككم بها أحاديث؛ تنتسخ أخباركم مع أخبار عاد وثمود! فلما أتاهم كتابه حمي القوم، فقدّمت الأنصار عبد الله بن حنظلة على أنفسهم وقدّمت قريش عبد الله بن مطيع؛ ثم أخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة، ومروان بن الحكم، وكلّ من كان بها من بني أمية؛ وكان عبد الله بن عباس بالطائف، فسأل عنهم فقيل له: استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة على الأنصار. فقال: أميران! هلك القوم! ولما بلغ يزيد ما فعلوا، أمر بقبة فضربت له خارجا عن قصره، وقطع «2» البعوث على أهل الشام، فلم تمض ثالثة حتى توافت «3» الحشود، فقدّم عليهم مسلم بن عقبة المري، فتوجه إليهم- وقد عمد أهل المدينة فأخرجوا إلى كل ماء لهم بينهم وبين الشام فصبّوا فيه زقاّ من قطران وغوّروه «4» ؛ فأرسل الله عليهم المطر، فلم يستقوا شيئا حتى وردوا المدينة.
قال أبو اليقظان وغيره: إن يزيد بن معاوية ولى مسلم بن عقبة وهو قد اشتكى، فقال له: إن حدث بك حدث فاستعمل حصين بن نمير.
فخرج حتى قدم المدينة، فخرج إليه أهلها في عدة وهيئة وجموع كثيرة لم ير مثلها؛ فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم؛ فأمر مسلم بن عقبة بسريره فوضع بين الصفين وهو عليه مريض وأمر مناديا ينادي: قاتلوا عن أميركم أو دعوه فجدّ الناس في القتال، فسمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، فإذا قد اقتحم عليهم بنو حارثة أهل الشام وهم على الجدّ، فانهزم الناس، وعبد الله بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغط نوما، فلما فتح عينيه فرأى ما صنعوا أمر أكبر بنيه! فتقدم حتى قتل، فلم يزل يقدم واحدا واحدا حتى أتي على آخرهم، ثم كسر غمد سيفه، وقاتل حتى قتل! ودخل مسلم بن عقبة المدينة، وتغلب على أهلها، ثم دعاهم إلى البيعة على أنهم خول «1» ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم؛ فبايعوا حتى أتي بعبد الله بن زمعة، فقال له: بايع على أنك خول لأمير المؤمنين يحكم في مالك ودمك وأهلك! قال: لن أبايع على أني بزعم أمير المؤمنين يحكم في دمي ومالي وأهلي. فقال مسلم بن عقبة: اضربوا عنقه. فوثب مروان بن الحكم فضمّه إليه وقال: نبايعك على ما أحببت. فقال: لا والله لا أقيلها إياه أبدا؛ إن تنّحي وإلّا فاقتلوهما جميعا، فتركه مروان، وضرب عنقه.
وهرب عبد الله بن مطيع حتى لحق بمكة، فكان بها حتى قتل مع عبد الله بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان، وجعل يقاتل أهل الشام وهو يقول:
أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والشّيخ لا يفرّ إلّا مرّة
فاليوم أجزي كرّة بفرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه
أبو عقيل الدّورقي قال: سمعت أبا نضرة يحدث، قال: دخل أبو سعيد الخدري يوم الحرّة في غار، فدخل عليه رجل من أهل الشام، وفي عنق أبي سعيد السيف،فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ «1» بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين! فقال: أبو سعيد الخدريّ أنت؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي! قال:
غفر الله لك.
وأمر مسلم بن عقبة بقتل معقل بن سنان الأشجعي صبرا، ومحمد بن أبي الجهم العدويّ صبرا.
وكان جميع من قتل يوم الحرة من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال، ومن الموالي وغيرهم أضعاف هؤلاء.
وبعث مسلم بن عقبة برءوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما ألقيت بين يديه جعل يتمثل بقول ابن الزبعرى يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلّوا فرحا ... ولقالوا ليزيد لا فشل
فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين! قال: بلى نستغفر الله. قال: والله لا ساكنتك أرضا أبدا. وخرج عنه.
ولما انقضى أمر الحرّة توجه مسلم بن عقبة بمن معه من أهل الشام إلى مكة يريد ابن الزبير وهو ثقيل، فلما كان بالأبواء «2» حضره أجله. فدعا حصين بن نمير، فقال له: إني أرسلت إليك، فلا أدري أقدّمك على هذا الجيش، أو أقدمك فأضرب عنقك! قال: أصلحك الله، أنا سهمك، فارم بي حيث شئت. قال: إنك اعرابي جلف «3» جاف، وإنّ هذا الحي من قريش لم يمكنهم أحد قط من أذنه إلا غلبوه على رأيه، فسر بهذا الجيش، فإذا لقيت القوم، فإياك أن تمكنهم من أذنك، لا يكن إلا على الوقاف «4» ، ثم الثقاف «5» ، ثم الانصراف.
ومات مسلم بن عقبة لا رحمه الله، ومضى حصين بن نمير بجيشه ذلك، فلم يزل محاصرا لأهل مكة حتى مات يزيد، لا رحمه الله؛ وذلك خمسون يوما ونصب المجانيق على الكعبة وأحرقها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأوّل سنة أربع وستين، وفيها مات يزيد بن معاوية بحوّارين.















مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید