المنشورات

فتنة ابن الزبير

قال عليّ بن عبد العزيز: حدّثنا أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر، قال: لما مات مسلم بن عقبة سار حصين بن نمير، حتى أتى مكة وابن الزبير بها، فدعاهم إلى الطاعة فلم يجيبوه، فقاتلهم، وقاتله ابن الزبير؛ فقتل المنذر بن الزبير يومئذ ورجلان من إخوته، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، والمسور بن مخرمة؛ وكان حصين بن نمير قد نصب المجانيق «1» على أبي قبيس وعلى قعيقعان «2» ، فلم يكن أحد يقدر أن يطوف بالبيت؛ فأسند ابن الزبير ألواحا من ساج على البيت، وألقى عليها الفرش والقطائف «3» ، فكان إذا وقع عليها الحجر»
نبا عن البيت، فكانوا يطوفون تحت تلك الألواح، فإذا سمعوا أصوات الحجر حين يقع على الفرش والقطائف كبّروا؛ وكان ابن الزبير قد ضرب فسطاطا «5» في ناحية، فكلما جرح رجل من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط، فجاء رجل من أهل الشام بنار في طرف سنانه، فأشعلها في الفسطاط، وكان يوما شديد الحرّ، فتمزق الفسطاط، فوقعت النار على الكعبة فاحترق الخشب والسقف، وانصدع الركن واحترقت الأستار وتساقطت إلى الأرض.
قال: ثم اقتتلوا مع أهل الشام أياما بعد حريق الكعبة.
قال أبو عبيد: احترقت الكعبة يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين، فجلس أهل مكة في جانب الحجر ومعهم ابن الزبير، وأهل الشام يرمونهم بالنبل والحجارة، فوقعت نبلة بين يدي ابن الزبير، فقال: في هذه خير! فأخذها فوجد فيها مكتوبا: مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة خلت من ربيع الأول. فلما قرأ ذلك قال: يا أهل الشام، يا أعداء الله، ومحرقي بيت الله، علام تقاتلون وقد مات طاغيتكم! فقال حصين بن نمير: موعدك البطحاء «6» الليلة أبا بكر.
فلما كان الليل، خرج ابن الزبير بأصحابه، وخرج حصين بأصحابه إلى البطحاء،ثم ترك كلّ واحد منهما أصحابه، وانفردا فنزلا؛ فقال حصين: يا أبا بكر، أنا سيد أهل الشام لا أدافع، وأرى أهل الحجاز قد رضوا بك؛ فتعال أبايعك الساعة ويهدر كل شيء أصبناه يوم الحرّة، وتخرج معي إلى الشام، فإني لا أحب أن يكون الملك بالحجاز. فقال: لا والله لا أفعل، ولا آمن من أخاف الناس وأحرق بيت الله وانتهك حرمته! قال: بل فافعل على أن لا يختلف عليك اثنان. فأبى ابن الزبير؛ فقال له حصين: لعنك الله ولعن من زعم أنك سيد، والله لا تفلح أبدا! اركبوا يا أهل الشام. فركبوا وانصرفوا.
أبو عبيد عن الحجّاج عن أبي معشر قال: حدّثنا بعض المشيخة الذين حضروا قتال ابن الزبير، قال: غلب حصين بن نمير على مكة كلها إلا الحجر، قال: فو الله إني لجالس عنده ومعه نفر من القرشيين: عبد الله بن مطيع، والمختار بن أبي عبيد، والمسور بن مخرمة، والمنذر بن الزبير، إذ هبّت رويحة «1» ؛ فقال المختار: والله إني لأرى في هذه الرويحة النصر، فاحملوا عليهم. فحملوا عليهم حتى أخرجوهم من مكة، وقتل المختار رجلا، وقتل ابن مطيع رجلا. ثم جاءنا على أثر ذلك موت يزيد بعد حريق الكعبة بإحدى عشرة ليلة.
وانصرف حصين بن نمير وأصحابه إلى الشام، فوجدوا معاوية بن يزيد قد مات ولم يتسخلف، وقال: لا أتحملها حيا وميتا.
فلما مات معاوية بن يزيد، بايع أهل الشام كلهم ابن الزبير، إلا أهل الأردن؛ وبايع أهل مصر أيضا ابن الزبير، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام. فلما رأى ذلك رجال بني أمية وناس من أشراف أهل الشام ووجوههم، منهم روح بن زنباع وغيره، قال بعضهم لبعض: إنّ الملك كان فينا أهل الشام، فانتقل عنا إلى الحجاز؛ لا نرضى بذلك؛ هل لكم أن تأخذوا رجلا منا فينظر في هذا الأمر. فقال [روح بن زنباع] : استخيروا الله. قال: فرأى القوم أنه غلام حدث السنّ فخرجوا من عنده وقالوا: هذا حدث. فأتوا عمرو بن سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر. فرأوه حدثا، فجاءوا إلى خالد بن يزيد ابن معاوية، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر. فرأوه حدثا حريصا على هذا الأمر؛ فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حدث. فأتوا مروان بن الحكم، فإذا عنده مصباح، وإذا هم يسمعون صوته بالقرآن، فاستأذنوا ودخلوا عليه، فقالوا: يا أبا عبد الملك، ارفع رأسك لهذا الأمر. فقال: استخيروا الله، واسألوا أن يختار لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلم خيرها وأعدلها. فقال له روح بن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا آمرهم أن يتقدّموا في المسجد غدا، ومر أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليه؛ فإذ فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت، صدقت! فيظنّ الناس أنّ أمرهم واحد ...
فلما اجتمع الناس، قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده، لقد شابت ذراعاه من الكبر. فقال الجذاميون: صدقت صدقت! فقال خالد بن يزيد: أمر دبّر بليل.
فبايعوا مروان بن الحكم، ثم كان من أمره مع الضحاك بن قيس بمرج راهط ما سيأتي ذكره بعد هذا في دولة بني مروان.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید