المنشورات

دولة بني مروان ووقعة مرج راهط

أبو الحسن قال: لما مات معاوية بن يزيد، اختلف الناس بالشام، فكان أول من خالف من أمراء الأجناد النعمان بن بشير الأنصاري، وكان على حمص فدعا لابن الزبير، فبلغ خبره زفر بن الحرث الكلابي وهو بقنّسرين، فدعا إلى ابن الزبير أيضا بدمشق سرا، ولم يظهر ذلك لمن بها من بني أمية وكلب؛ وبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بحدل الكلبي وهو بفلسطين؛ فقال لروح بن زنباع: إني أرى أمراء الأجناد يبايعون لابن الزبير، وأبناء قيس بالأردن كثير، وهم قومي، فأنا خارج إليها وأقم أنت بفلسطين، فإنّ جل أهلها قومك من لخم وجذام، فإن خالفك أحد فقاتله بهم.
فأقام روح بفلسطين، وخرج حسان إلى الأردن، فقام ناتل بن قيس الجذامي فدعا إلى ابن الزبير، وأخرج روح بن زنباع من فلسطين، ولحق بحسان بالأردن فقال حسان: يا أهل الأردن، قد علمتم أن ابن الزبير في شقاق ونفاق وعصيان لخلفاء الله.
ومفارقة لجماعة المسلمين؛ فانظروا رجلا من بني حرب فبايعوه فقالوا: اختر لنا من شئت من بني حرب، وجنّبنا هذين الرجلين الغلامين: عبد الله وخالدا ابني يزيد بن معاوية؛ فإنا نكره أن يدعو الناس إلى شيخ، ونحن ندعو إلى صبيّ. وكان هوى حسان في خالد بن يزيد، وكان ابن أخته؛ فلما رموه بهذا الكلام أمسك، وكتب إلى الضحاك بن قيس كتابا يعظم فيه بني أمية وبلاءهم عنده، ويذم ابن الزبير ويذكر خلافه للجماعة، وقال لرسوله: اقرأ الكتاب على الضحاك بمحضر بني أمية وجماعة الناس. فلما قرأ كتاب حسان، تكلم الناس فصاروا فرقتين، فصارت اليمانية مع بني أيمة، والقيسية زبيرية، ثم اجتلدوا «1» بالنعال، ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف، حتى حجر بينهم خالد بن يزيد، ودخل الضحاك دار الإمارة فلم يخرج ثلاثة أيام.
وقدم عبيد الله بن زياد فكان مع بني أمية بدمشق، فخرج الضحاك بن قيس إلى المرج- مرج راهط- فسعكر فيه، وأرسل إلى أمراء الأجناد فأتوه، إلا ما كان من كلب؛ ودعا مروان إلى نفسه، فبايعته بنو أمية، وكلب، وغسان، والسكاسك وطيّ؛ فعسكر في خمسة آلاف، وأقبل عباد بن يزيد من حوران في ألفين من مواليه وغيرهم من بني كلب، فلحق بمروان وغلب يزيد بن أبي نمس على دمشق فأخرج منها عامل الضحاك، وأمر مروان برجال وسلاح كثير.
وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد، فقدم عليه زفر بن الحرث من قنسرين وأمده النعمان بن بشير بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، فتوافوا عند الضحاك بمرج راهط، فكان الضحاك في ستين ألفا، ومروان في ثلاثة عشر ألفا، أكثرهم رجالة، وأكثر أصحاب الضحاك ركبان؛ فاقتتلوا بالمرج عشرين يوما، وصبر الفريقان، وكان على ميمنة الضحاك زياد بن عمرو بن معاوية العقيلي، وعلى ميسرته بكر بن أبي بشير الهلالي: فقال عبيد الله بن زياد لمروان: إنك على حق، وابن الزبير ومن دعا إليه على الباطل، وهم أكثر منا عددا وعددا، ومع الضحاك فرسان قيس؛ واعلم أنك لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة، وإنما الحرب خدعة، فادعهم إلى الموادعة، فإذا أمنوا وكفّوا عن القتال فكرّ عليهم. فأرسل مروان السّفراء إلى الضحاك يدعوه إلى الموادعة ووضع الحرب حتى ننظر. فأصبح الضحاك والقيسية قد أمسكوا عن القتال، وهم يطمعون أن يبايع مروان لابن الزبير، وقد أعد مروان أصحابه، فلم يشعر الضحاك وأصحابه إلا والخيل قد شدت عليهم، ففزع الناس إلى راياتهم من غير استعداد وقد غشيتهم الخيل، فنادى الناس: أبا أنيس، أعجز بعد كيس «1» ، وكنية الضحاك: أبو أنيس، فاقتتل الناس، ولزم الناس راياتهم، فترجّل مروان وقال: قبح الله من ولاهم اليوم ظهره حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين. فقتل الضحاك بن قيس، وصبرت قيس عند راياتها يقاتلون، فنظر رجل من بني عقيل إلى ما تلقى قيس عند راياتها من القتل، فقال: اللهم العنها من رايات! واعترضها بسيفه، فجعل يقطعها، فإذا سقطت الراية تفرق أهلها، ثم انهزم الناس فنادى منادي مروان: لا تتبعوا من ولّاكم اليوم ظهره.
فزعموا أن رجالا من قيس لم يضحكوا بعد يوم المرج، حتى ماتوا جزعا على من أصيب من فرسان قيس يومئذ، فقتل من قيس يومئذ ممن كان يأخذ شرف العطاء، ثمانون رجلا، وقتل من بني سليم ستمائة، وقتل لمروان ابن يقال له عبد العزيز، وشهد مع الضحاك يوم مرج راهط عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان، فلما انهزم الناس، قال له عبيد الله بن زياد: ارتدف «2» خلفي. فارتدف، فأراد عمرو بن سعيد أن يقتله،فقال له عبيد الله بن زياد: ألا تكف يا لطيم الشيطان؟
وقال زفر بن الحارث وقد قتل ابناه يوم المرج:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعا بيّنا متنائيا «1»
فلم تر مني زلة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيّ ورائيا
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
أنترك كلبا لم تنلها رماحنا ... وتذهب قتلى راهط وهي ماهيا
وقد تنبت الخضراء في دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
فلا صلح حتى تدعس الخيل بالقنا ... وتثأر من أبناء كلب نسائيا «2»
فلما قتل الضحاك وانهزم الناس: نادى مروان أن لا يتّبع أحد، ثم أقبل إلى دمشق فدخلها، ونزل دار معاوية بن أبي سفيان دار الإمارة؛ ثم جاءته بيعة الأجناد فقال له أصحابه: إنا لا نتخوف عليك إلا خالد بن يزيد، فتزوّج أمّه؛ فإنك تكسره بذلك- وأمه ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة- فتزوجها مروان، فلما أراد الخروج إلى مصر قال لخالد: أعرني سلاحا إن كان عندك. فأعاره سلاحا.
وخرج إلى مصر، فقاتل أهلها وسبى بها ناسا كثيرا، فافتدوا منه ثم قدم الشام.
فقال له خالد بن يزيد: ردّ عليّ سلاحي. فأبى عليه، فألح عليه خالد، فقال له مروان، وكان فحاشا: يا بن رطبة الاست! قال: فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما قاله مروان على رءوس أهل الشام، فقالت له: لا عليك، فإنه لا يعود إليك بمثلها.
فلبث مروان بعد ما قال لخالد ما قال أياما، ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها فأمرت جواريها فطرحن عليه الوسائد ثم غطته حتى قتلته، ثم خرجن فصحن وشققن ثيابهن: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين!
ثم قام عبد الملك بالأمر بعده، فقال لفاخته أم خالد: والله لولا أن يقول الناس إني قتلت بأبي امرأة لقتلتك بأمير المؤمنين.
وولد مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بمكة.
ومات بالشام لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه ابنه عبد الملك بن مروان. وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما. وكان على شرطته يحيى بن قيس الشيباني. وكاتبه سرجون بن منصور الرومي.
وحاجبه أبو سهل الأسود مولاه.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید