المنشورات

ولاية عبد الملك بن مروان

هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية، ويكنى؛ أبا الوليد ويقال له أبو الأملاك؛ وذلك أنه ولي الخلافة أربع من ولده: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام. وكان تدمى لثته فيقع عليها الذباب، فكان يلقب: أبا الذباب.
أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.
وله يقول ابن قيس الرقيات:
أنت ابن عائشة التي ... فضلت أروم نسائها «1»
لم نلتفت للداتها ... ومضت على غلوائها
ولدت أغرّ مباركا ... كالشمس وسط سمائها
وبويع عبد الملك بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين.
ومات بدمشق للنصف من شوال سنة ست وثمانين؛ وهو ابن ثلاث وستين سنة، فصلى عليه الوليد بن عبد الملك.
وولد عبد الملك بالمدينة سنة ثلاث وعشرين، ويقال سنة ست وعشرين، ويقال ولد لسبعة أشهر.
وكان على شرطته: ابن أبي كبيشة السكسكي، ثم أبو نائل بن رباح بن عبيدة الغساني ثم عبد يزيد الحكمي، وعلى حرسه: الريان.
وكاتبه على الخراج والجند: سرجون بن منصور الرومي، وكاتبه على الرسائل:
أبو زرعة مولاه، وعلى الخاتم: قبيصة بن ذؤيب، وعلى بيوت الأموال والخزائن:
رجاء بن حيوة.
وحاجبه أبو يوسف مولاه.
ومات عبد الملك سنة ست وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه الوليد ابنه.
وكانت ولايته منذ اجتمع عليه ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر.
ودفن خارج باب المدينة.
وفي أيام عبد الملك حوّلت الدواوين إلى العربية عن الرومية والفارسية حوّلها من الرومية سليمان بن عسد مولى خشين، وحوّلها عن الفارسية صالح بن عبد الرحمن مولى عتبة، امرأة من بني مرة، ويقال حوّلت في زمن الوليد.
ابن وهب عن ابن لهيعة قال: كان معاوية فرض للموالي خمسة عشر، فبلغهم عبد الملك عشرين، ثم بلغهم خمسة وعشرين، ثم قام هشام فأتم للأبناء منهم ثلاثين.
وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان كتابه إليه يقول:
لعبد الملك بن مروان من عبد الله بن عمر، سلام عليك؛ فاني أقررت لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم. وبيعة نافع مولاي على مثل ما بايعتك عليه.
وكتب محمد بن الحنفية ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان في كتابه:
إني اعتزلت الأمة عند اختلافها، فقعدت في البلد الحرام الذي من دخله كان آمنا، لأحرز ديني، وأمنع دمي، وتركت الناس قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا
«1» . وقد رأيت الناس قد اجتمعوا عليك، ونحن عصابة من أمتنا لا نفارق الجماعة؛ وقد بعثت إليك منا رسولا ليأخذ لنا منك ميثاقا، ونحن أحق بذلك منك، فإن أبيت فأرض الله واسعة، والعاقبة للمتقين.
فكتب إليه عبد الملك: قد بلغني كتابك بما سألته من الميثاق لك وللعصابة التي معك، فلك عهد الله وميثاقه أن لا تهاج في سلطاننا، غائبا ولا شاهدا ولا أحد من أصحابك ما وفوا ببيعتهم، فإن أحببت المقام بالحجاز فأقم، فلن ندع صلتك وبرّك؛ وإن أحببت المقام عندنا فاشخص إلينا، فلن ندع مواساتك؛ ولعمري لئن ألجأناك إلى الذهاب في الأرض خائفا لقد ظلمناك وقطعنا رحمك؛ فاخرج إلى الحجاج فبايع، فإنك أنت المحمود عندنا دينا ورأيا، وخير من ابن الزبير وأرضي وأتقى.
وكتب إلى الحجاج بن يوسف:
لا تعرض لمحمد ولا لأحد من أصحابه.
وكان في كتابه:
جنّبني دماء بني عبد المطلب؛ فليس فيها شفاء من الحرب «2» ؛ وإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي.
فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيين في أيامه.
أبو الحسن المدائني قال: كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم.
وخطب الناس عبد الملك فقال: أيها الناس إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف- يريد عثمان بن عفان- ولا بالخليفة المداهن- يريد معاوية بن أبي سفيان- ولا بالخليفة المأفون «1» - يريد يزيد بن معاوية- فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا! ثم نزل.
وخطب عبد الملك على المنبر فقال: أيها الناس، إن الله حد حدودا، وفرض فروضا؛ فما زلتم تزدادون في الذنب ونزداد في العقوبة، حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف! أبو الحسن المدائني قال: قدم عمر بن أبي طالب على عبد الملك، فسأله أن يصيّر إليه صدقة علي، فقال عبد الملك متمثلا بأبيات ابن أبي الحقيق:
إني إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السّامع للقائل
واعتلج الناس بآرائهم ... نقضي بحكم عادل فاصل «2»
لا نجعل الباطل حقاّ ولا ... نرضى بدون الحقّ للباطل
لا، لعمري لا نخرجها من ولد الحسين إليك. وأمر له بصلة، ورجع.
وقال عبد الملك بن مروان لأيمن بن خريم: إن أباك وعمك كانت لهما صحبة؛ فخذ هذا المال فقاتل ابن الزبير. فأبى، فشتمه عبد الملك، فخرج وهو يقول:
فلست بقاتل رجلا يصلّي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعليّ إثمي ... معاذ الله عن سفه وطيش
وقال أيمن بن خريم أيضا:
إنّ للفتنة هيطا بيّنا ... فرويد الميل منها يعتدل «3»
فإذا كان عطاء فانتهز ... وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها فرسانها ... حطب النار فدعها تشتعل
وقال زفر بن الحارث لعبد الملك بن مروان: الحمد لله الذي نصرك على كرّه من المؤمنين. فقال أبو زعيزعة: ما كره ذلك إلا كافر. فقال زفر: كذبت، قال الله لنبيه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ
«1» .
وبعث عبد الملك بن مروان إلى المدينة حبيش بن دلجة القيني في سبعة آلاف فدخل المدينة وجلس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا بخبز ولحم فأكل، ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر، ثم دعا جابر بن عبد الله صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: تبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعهد الله عليك وميثاقه، وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه في الوفاء، فإن خنتنا فهراق «2» الله دمك على ضلاله. قال: أنت أطوق لذلك مني، ولكن أبايعه على ما بايعت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية، على السمع والطاعة.
ثم خرج ابن دلجة من يومه ذلك إلى الربذة، وقدم على أثره من الشام رجلان مع كل واحد منهما جيش، ثم اجتمعوا جميعا في الرّبذة، وذلك في رمضان سنة خمس وستين وأميرهم ابن دلجة.
وكتب ابن الزبير إلى العباس بن سهل الساعدي بالمدينة أن يسير إلى حبيش بن دلجة، فصار حتى لقيه بالربذة.
وبعث الحراث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وهو عامل ابن الزبير على البصرة، مددا إلى العباس بن سهل: حنيف بن السّجف في تسعمائة من أهل البصرة، فساروا حتى انتهوا إلى الربذة.
فبات أهل البصرة وأهل المدينة يقرءون القرآن ويصلّون، وبات أهل الشام في المعازف والخمور؛ فلما أصبحوا غدوا على القتال، فقتل حبيش بن دلجة ومن معه، فتحصن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على عمود الربذة، وهو الجبل الذي عليها، وفيهم يوسف أبو الحجاج، فأحاط بهم عياش بن سهل، فطلبوا الأمان، فقال [لهم عياش] انزلوا على حكمي. فنزلوا على حكمه، فضرب أعناقهم أجمعين. ثم رجع عياش بن سهل إلى المدينة.
وبعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة عاملا على البصرة، فاستضعفه القوم فبعث أخاه مصعب بن الزبير، فقدم عليهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنه لا يقدم عليكم أمير إلا لقّبتموه، وإني ألقب لكم نفسي: أنا القصاب.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید