المنشورات

مقتل عمرو بن سعيد الأشدق

أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر، قال: لما قدم مصعب بوجوه أهل العراق على أخيه عبد الله بن الزبير فلم يعطهم شيئا، أبغضوا ابن الزبير، وكاتبوا عبد الملك بن مروان، فخرج يريد مصعب بن الزبير فلما أخذ في جهازه وأراد الخروج، أقبلت عاتكة ابنة يزيد بن معاوية في جواريها وقد تزينت بالحلى، فقالت: يا أمير المؤمنين، لو قعدت في ظلال ملكك ووجهت إليه كلبا من كلابك لكفاك أمره! فقال:
هيهات، أما سمعت قول الأول:
قوم إذا ما غزوا شدّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
فلما أبى عليها وعزم بكت وبكى معها جواريها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي ربيعة، كأنه ينظر إلينا حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها نظم در يزينها «1»
نهته فلما لم تر النّهي عاقه ... بكت فبكى مما دهاها قطينها «2»
ثم خرج يريد مصعب، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، قيل له: ما تصنع؟ أتريد العراق وتدع دمشق؟ أهل الشام أشدّ عليك من أهل العراق! فرجع مكانه فحاصر أهل دمشق حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده وأن له مع كل عامل عاملا، ففتح له دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو بن سعيد، فأرسل إليه عبد الملك أن أخرج للحرس أرزاقهم فقال:
إذا كان لك حرس فإن لنا حرسا أيضا! فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أيضا أرزاقهم! فلما كان يوم من الأيام أرسل عبد الملك إلى عمرو بن سعيد نصف النهار أن ائتني أبا أمية حتى أدبر معك أمورا. فقالت له امرأته. يا أبا أمية، لا تذهب إليه؛ فإنني أتخوّف عليك منه! فقال: أبو الذباب! والله لو كنت نائما ما أيقظني! قالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم مسفوح. فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجها، فخرج وخرج معه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يقدر على مثلهم مسلّحين، فأحدقوا بخضراء دمشق وفيها عبد الملك، فقالوا: يا أبا امية، إن رابك ريب فأسمعنا صوتك، قال: فدخل فجعلوا يصيحون: أبا أمية أسمعنا صوتك، وكان معه غلام أسحم شجاع، فقال له: اذهب إلى الناس فقل لهم:
ليس عليه بأس. فقال له عبد الملك: أمكرا عند الموت أبا أمية؟ خذوه. فأخذوه.
فقال له عبد الملك: إني أقسمت إن أمكنتني منك يد أن أجعل في عنقك جامعة «3» ، وهذه جامعة من فضة أريد أن أبرّ بها قسمي! قال: فطرح في رقبته الجامعة، ثم طرحه إلى الأرض بيده فانكسرت ثنيته «4» ؛ فجعل عبد الملك ينظر إليه، فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر! قال: وجاء المؤذنون فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين. لصلاة الظهر، فقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع إليك من الصلاة. فلما أراد عبد العزيز أن يضرب عنقه، قال له عمرو، أنشدتك بالرحم يا عبد العزيز أن لا تقتلني من بينهم! فجاء عبد الملك فرآه جالسا، فقال: مالك لم تقتله؟ لعنك الله ولعن أماّ ولدتك! ثم قال: قدّموه إليّ. فأخذ الحربة بيده فقال:
فعلتها يا بن الزرقاء، فقال له عبد الملك: إني لو علمت أنك تبقى ويصلح لي ملكي لفديتك بدم الناظر «1» ، ولكن قلّما اجتمع فحلان في ذود «2» إلا عدا أحدهما على الآخر. ثم رفع إليه الحربة فقتله، وقعد عبد الملك يرعد، ثم أمر به فأدرج في بساط وأدخل تحت السرير. وأرسل إلى قبيصة بن ذؤيب الخزاعي فدخل عليه، فقال: كيف رأيك في عمرو بن سعيد الأشدق؟ قال- وأبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير، فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين! قال: جزاك الله خيرا، ما علمت إنك لموفّق، قال قبيصة: اطرح رأسه وانثر على الناس الدنانير يتشاغلون بها. ففعل.
وافترق الناس، وهرب يحيى بن سعيد بن العاص حتى لحق بعبد الله بن الزبير بمكة فكان معه.
وأرسل عبد الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر، فقال له: ما ترى ما كان من فعلي بعمرو بن سعيد؟ قال: أمر قد فات دركه «3» . قال: لتقولنّ. قال: حزم لو قتلته وحييت أنت! قال: أو لست بحيّ؟ قال: هيهات، ليس بحيّ من أوقف نفسه موقفا لا يوثق منه بعهد ولا عقد. قال: كلام لو تقدّم سماعه فعلي لأمسكت! ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل عمرو بن سعيد، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إنّ عبد الملك بن مروان قتل لطيم الشيطان كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
«1» .










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید