المنشورات

مقتل مصعب بن الزبير

فلما استقرّت البيعة لعبد الملك بن مروان أراد الخروج إلى مصعب بن الزبير، فجعل يستنفر أهل الشام فيبطئون عليه، فقال له الحجاج بن يوسف: سلّطني عليهم، فو الله لأخرجنّهم معك! قال له: قد سلطتك عليهم. فكان الحجاج لا يمرّ على باب رجل من أهل الشام قد تخلف عن الخروج إلا أحرق عليه داره. فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا.
وسار عبد الملك حتى دنا من العراق، وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة، فالتقوا بين الشام والعراق؛ وقد كان عبد الملك كتب كتبا إلى رجال من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نفسه ويجعل لهم الأموال، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك، على أن يخذلوا مصعبا إذا التقوا؛ فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: إنّ عبد الملك قد كتب إليّ هذا الكتاب، وقد كتب إلى أصحابي بمثل ذلك، فادعهم الساعة فاضرب أعناقهم. قال: ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي أمرهم. قال:
فأخرى ... قال: ما هي؟ قال: احبسهم حتى يستبين لك ذلك. قال: ما كنت لأفعل. قال: فعليك السلام، والله لا تراني بعد في مجلسك هذا أبدا. وقد كان قال له: دعني أدعو أهل الكوفة بما شرطه الله. فقال: لا والله، قتلتهم أمس وأستنصر بهم اليوم. قال: فما هو إلا أن التقوا فحوّلوا وجوههم وصاروا إلى عبد الملك؛ وبقي مصعب في شرذمة قليلة، فجاءه عبيد الله بن زياد بن ظبيان- وكان مع مصعب- فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق. فرفع عبيد الله السيف ليضرب مصعبا، فبدره مصعب فضربه بالسيف على البيضة «2» ، فنشب السيف في البيضة؛ فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعبا بالسيف فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول:
نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرّم
قال: فلما نظر عبد الملك إلى رأس مصعب خرّ ساجدا، فقال عبد الله بن ظبيان؛ وكان من فتّاك العرب: ما ندمت على شيء قطّ ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب فخرّ ساجدا أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد! وقال في ذلك عبيد الله بن زياد بن ظبيان.
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه
فأوردتها في النار بكر بن وائل ... والحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه
الرياشي عن الأصمعي قال: لما أتي عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، نظر إليه مليا. ثم قال: متى تلد قريش مثلك! وقال: هذا سيد شباب قريش.
وقيل لعبد الملك: أكان مصعب يشرب الطلاء «1» ؟ فقال: لو علم مصعب أنّ الماء يفسد مروءته لما شربه! ولما قتل مصعب دخل الناس على عبد الملك يهنئونه، ودخل معهم شاعر فأنشده:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها..
عنك، ويأبى الله إلا سوقها ... إليك، حتى قلّدوك طوقها
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقالوا: كان مصعب أجلّ الناس، وأسخى الناس، وأشجع الناس؛ وكان تحته عقيلتا قريش: عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. 
ولما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة، فأطاف بها أهل العراق، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا أبنة رسول الله! فقالت: لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد! قتلتم أبي وجدّي وعمي وزوجي! أيتمتموني صغيرة، وأرملتموني كبيرة! ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل مصعب، صعد المنبر فجلس عليه، ثم سكت فجعل لونه يحمّر مرة ويصفرّ مرة؛ فقال رجل من قريش لرجل إلى جنبه: ماله لا يتكلم، فو الله إنه للخطيب اللبيب. فقال له الرجل: لعله يريد أن يذكر مقتل سيّد العرب فيشتدّ ذلك عليه، وغير ملوم! ثم تكلم فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر، و [ملك] الدنيا والآخرة يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء «1» .
أمّا بعد: فإنه لم يعزّ من كان الباطل معه ولو كان معه الأنام طراّ، ولم يذلّ من كان الحقّ معه ولو كان فردا؛ ألا وإنّ خبرا من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا؛ فأمّا الذي أحزننا؛ فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه، ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصبر وكريم الأجر، وأمّا الذي أفرحنا فإن قتل مصعب له شهادة ولنا ذخيرة.
أسلمه الطّغام»
، الصم الآذان، أهل العراق، وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه، وكانوا الخيار الصالحين؛ إنّا والله لا نموت حتف «3» أنوفنا كما يموت بنو مروان، ولكن قعصا «4» بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف، فإن تقبل الدنيا عليّ لم آخذها مأخذ الأشر «5» البطر «6» ، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرف الزائل العقل. 
ولما توطد لابن الزبير أمره وملك الحرمين والعراقين، أظهر بعض بني هاشم الطعن عليه؛ وذلك بعد موت الحسن والحسين؛ فدعا عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم إلى بيعته، فأبوا عليه، فجعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر، وأسقط ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم من خطبته، فعوتب في ذلك، فقال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لأذكره سرا وأصلي عليه، ولكن رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره سرا وأصلي عليه، ولكن رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إليّ ما يسرّهم، ثم قال لتبايعنّ أو لأحرقنّكم بالنار! فأبوا عليه، فحبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر من بني هاشم في السجن، وكان السجن الذي حبسهم فيه يقال له سجن عارم «1» ؛ فقال في ذلك كثيّر عزة- وكان ابن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت-:
تخبّر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم «2»
سميّ النّبيّ المصطفى وابن عمّه ... وفكّاك أغلال وقاضي مغارم
وكان أيضا يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحلّ
ثم إن المختار بن أبي عبيد وجّه رجالا يثق بهم من الشيعة يكمنون النهار ويسيرون الليل، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم؛ ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وخطب عبد الله بن الزبير بعد موت الحسن والحسين، فقال:
أيها الناس، إن فيكم رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، قاتل أمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأفتى بتزويج المتعة. 
وعبد الله بن عباس في المسجد؛ فقام وقال لعكرمة: أقم وجهي نحوه يا عكرمة.
ثم قال هذا البيت:
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي فؤادي وعقلي منهما نور
وأما قولك يا ابن الزبير: إني قاتلت أم المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سمّيت أمّ المؤمنين، فكنّا لها خير بنين، فتجاوز الله عنها، وقاتلت أنت وأبوك عليا؛ فإن كان عليّ مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزّحف؛ وأما المتعة فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخّص فيها فأفتيت بها، ثم سمعته ينهى عنها [فنهيت عنها] وأول مجمر «1» سطع في المتعة مجمر آل الزبير.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید