المنشورات

أخبار سليمان بن عبد الملك

أبو الحسن المدائني قال: لما بلغ قتيبة بن مسلم أنّ سليمان بن عبد الملك عزله عن خراسان واستعمل يزيد بن المهلب، كتب إليه ثلاث صحف، وقال للرسول: ادفع إليه هذه، فإن دفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه، فإن شتمني فادفع هذه. فلما سار الرسول إليه دفع الكتاب إليه، وفيه: يا أمير المؤمنين، إنّ من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كيت وكيت. فدفع كتابه إلى يزيد، فأعطاه الرسول الكتاب الثاني، وفيه: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن ابن رحمة على أسرارك وأبوه لم يأمنه على أمّهات أولاده؟
فلما قرأ الكتاب شتمه وناوله ليزيد، فأعطاه الثالث، وفيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد: فو الله لأوثّقن له آخيّة «2» لا ينزعها المهر الأرن «3» ! فلما قرأها قال سليمان: عجلنا على قتيبة! يا غلام، جدّد له عهدا على خراسان.
ودخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان، فقال له سليمان: أترى الحجاج استقرّ في قعر جهنم، أم هو يهوي فيها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه من النار حيث شئت! قال: فأمر به إلى الحبس، فكان فيه طول ولايته.
قال محمد بن يزيد الأنصاري: فلما ولى عمر بن عبد العزيز، بعثني فأخرجت من السجن من حبس سليمان ما خلا يزيد بن أبي مسلم فقد ردّ ...فلما مات عمر بن عبد العزيز ولاه يزيد بن عبد الملك أفريقية وأنا فيها، فأخذت فأتي به إليه في شهر رمضان عند الليل، فقال: محمد بن يزيد؟ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي مكنني منك بلا عهد ولا عقد، فطالما سألت الله أن يمكنني منك! قلت: وأنا والله طالما استعذت بالله منك! قال: فو الله ما أعاذك الله مني، ولو أنّ ملك الموت سابقني إليك لسبقته! قال: فأقيمت صلاة المغرب، فصلى ركعة فثارت عليه الجند فقتلوه، وقالوا لي: خذ إلى الطريق أيّ طريق شئت.
وأراد سليمان بن عبد الملك أن يحجر على يزيد بن عبد الملك، وذلك أنّه تزوّج سعدى بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان فأصدقها عشرين ألف دينار، واشترى جارية بأربعة آلاف دينار؛ فقال سليمان: لقد هممت أن أضرب على يد هذا السفيه، ولكن كيف أصنع بوصية أمير المؤمنين بابني عاتكة: يزيد ومروان؟
وحبس سليمان بن عبد الملك، موسى بن نصير، وأوحى إليه: اغرم «1» ديتك خمسين مرة! فقال موسى: ما عندي ما أغرمه. فقال: والله لتغرمنّها مائة مرة فحملها عنه يزيد بن المهلب، وشكر ما كان من موسى إلى أبيه المهلب أيام بشر بن مروان؛ وذلك أن بشرا هم بالمهلب؛ فكتب إليه موسى يحذّره، فتمارض المهلب ولم يأته حين أرسل إليه.
وكان خالد بن عبد الله القسري واليا على المدينة للوليد ثم أقرّه سليمان؛ وكان قاضي مكة طلحة بن هرم؛ فاختصم إليه رجل من بني شيبة الذين إليهم مفتاح الكعبة يقال له الأعجم، مع ابن أخ له في أرض لهما، فقضى للشيخ على ابن أخيه، وكان متصلا بخالد بن عبد الله، فأقبل إلى خالد فأخبره؛ فحال خالد بين الشيخ وبين ما قضى له القاضي؛ فكتب القاضي كتابا إلى سليمان يشكو له خالدا. ووجّه الكتاب إليه مع محمد بن طلحة؛ فكتب سليمان إلى خالد: لا سبيل لك على الأعجم ولا ولده.
فقدم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال لا سبيل لك علينا؛ هذا كتاب أمير المؤمنين. فأمر به خالد فضرب مائة سوط قبل أن يقرأ كتاب سليمان؛ فبعث القاضي ابنه المضروب إلى سليمان؛ وبعث ثيابه التي ضرب فيها بدمائها؛ فأمر سليمان بقطع يد خالد فكلمه يزيد بن المهلب وقال: إن كان ضربه يا أمير المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تقطع يده، وإن كان ضربه قبل ذلك فعفو أمير المؤمنين أولى بذلك. فكتب سليمان إلى داود بن طلحة بن هرم: إن كان ضرب الشيخ بعد ما قرأ الكتاب الذي أرسلته فاقطع يده، وإن كان ضربه قبل أن يقرأ كتابي فاضربه مائة سوط. فأخذ داود بن طلحة- لما قرأ الكتاب- خالدا فضربه مائة سوط؛ فجزع خالد من الضرب فجعل يرفع يديه؛ فقال له الفرزدق: ضم إليك يديك يا بن النصرانية! فقال خالد: ليهنأ الفرزدق، وضمّ يديه. وقال الفرزدق:
لعمري لقد صبّت على متن خالد ... شآبيب لم يصببن من صيّب القطر «1»
فلولا يزيد بن المهلّب حلّقت ... بكفّك فتخاء الجناح إلى الوكر «2»
فردّت أمّ خالد عليه تقول:
لعمري لقد باع الفرزدق عرضه ... بخسف وصلى وجهه حامي الجمر
فكيف يساوي خالدا أو يشينه ... خميص من التّقوى بطين من الخمر «3»
وقال الفرزدق أيضا في خالد القسري:
سلوا خالدا، لا قدّس الله خالدا ... متى ملكت قسر قريشا تدينها؟
أقبل رسول الله أو بعد عهده؟ ... فتلك قريش قد أغثّ سمينها
رجونا هداه؛ لا هدى الله قلبه ... وما أمّه بالأمّ يهدى جنينها
فلم يزل خالد محبوسا بمكة حتى حج سليمان وكلمه فيه المفضّل بن المهلب؛ فقال سليمان: لاطت «4» بك الرحم أبا عثمان؛ إن خالدا جرّعني غيظا! قال: يا أمير المؤمنين، هبني ما كان من ذنبه. قال: قد فعلت، ولا بدّ أن يمشي إلى الشام راجلا! فمشى خالد إلى الشام راجلا.
وقال الفرزدق يمدح سليمان بن عبد الملك:
سليمان غيث الممحلين ومن به ... عن البائس المسكين حلّت سلاسله
وما قام من بعد النبيّ محمد ... وعثمان فوق الأرض راع يماثله
جعلت مكان الجور في الأرض مثله ... من العدل إذ صارت إليك محامله
وقد علموا أن لن يميل بك الهوى ... وما قلت من شيء فإنك فاعله
زياد عن مالك، أن سليمان بن عبد الملك قال يوما لعمر بن عبد العزيز: كذبت! قال: والله ما كذبت منذ شددت عليّ إزاري، وإن في غير هذا المجلس لسعة! وقام مغضبا فتجهز يريد مصر! فأرسل إليه سليمان فدخل عليه؛ فقال له: يا بن عمي، إن المعاتبة تشقّ عليّ، ولكن والله ما أهمني أمر قط من ديني ودنياي إلا كنت أوّل من أذكره لك.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید