المنشورات

أخبار عمر بن عبد العزيز

بشر بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر يخلو بنفسه ويبكي فنسمع نحيبه بالبكاء وهو يقول: أبعد الثلاثة الذين واريتهم بيدي: عبد الملك، والوليد، وسليمان.
وقدم رجل من خراسان على عمر بن عبد العزيز حين استخلف، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي قائلا يقول: إذا ولي الأشجّ «1» من بني أمية يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؛ فولي الوليد، فسألت عنه فقيل لي: ليس بأشج؛ ثم ولي سليمان، فسألت عنه فقيل: ليس بأشج؛ ووليت أنت فكنت الأشج. فقال عمر:
تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: فبالذي أنعم عليك به، أحق ما أخبرتني؟ قال:
نعم. فأمره أن يقيم في دار الضيافة، فمكث نحوا من شهرين، ثم أرسل إليه عمر فقال: هل تدري لم احتبسناك؟ قال: لا. قال: أرسلنا إلى بلدك لنسأل عنك فإذا ثناء صديقك وعدوّك عليك سواء؛ فانصرف راشدا.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يأخذ من بيت المال شيئا، ولا يجري على نفسه من الفيء درهما: وكان عمر بن الخطاب يجري على نفسه من ذلك درهمين في كل يوم؛فقيل لعمر بن عبد العزيز: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب؟ فقال: إن عمر ابن الخطاب لم يكن له مال، وأنا مالي يغنيني!.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على هذا وأشار إلى رجل، قال: فيم؟ قال: أخذ مالي وضرب ظهري. فدعا به عمر فقال ما يقول هذا؟ قال: صدق، إنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك: «وطاعتكم فريضة» قال: كذبت! لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله. وأمر بالأرض فردّت إلى صاحبها.
عبد الله بن المبارك عن رجل أخبره، قال: كنت مع خالد بن يزيد بن معاوية في صحن بيت المقدس، فلقينا عمر بن عبد العزيز ولا أعرفه، فأخذ بيد خالد وقال: يا خالد، أعلينا عين؟ قلت: عليكما من الله عين بصيرة وأذن سميعة! قال: فاستلّ يده من يد خالد وأرعد «1» ودمعت عيناه ومضى، فقلت لخالد: من هذا؟ قال: هذا عمر ابن عبد العزيز، وإن عاش فيوشك أن يكون إماما عدلا.
وقال رباح بن عبيدة: اشتريت لعمر قبل الخلافة مطرفا بخمسمائة، فاستخشنه وقال: لقد اشتريته خشنا جدا! واشتريت له بعد الخلافة كساء بثمانية دراهم، فاستلانه وقال: لقد اشتريته ليّنا جدا!.
ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر وعليه ريطة «2» من رياط مصر: فقال: بكم أخذت هذا يا أبا سعيد؟ قال: بكذا وكذا. قال: فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك. قال مسلمة: إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اللّين ما كان بعد الولاية.
وكان لعمر غلام يقال له درهم يحتطب له، فقال له يوما: ما يقول الناس يا درهم؟ قال: وما يقولون؟ الناس كلهم بخير، وأنا وأنت بشر! قال: وكيف ذلك؟
قال: إني عهدتك قبل الخلافة عطرا، لبّاسا، فاره «1» المركب، طيّب الطعام؛ فلما وليت رجوت أن أستريح وأتخلص، فزاد عملي شدة، وصرت أنت في بلاء! قال فأنت حرّ، فاذهب عني ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجا! ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر، فكثر بكاؤه ومسألته ربّه الموت، فقلت:
لم تسأل الموت وقد صنع الله على يديك خيرا كثيرا: أحيا بك سننا، وأمات بك بدعا قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح أقر الله عينه وجمع له أمره قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
«2» ! ولما ولي عمر بن عبد العزيز قال: إن فدك كانت مما أفاه الله على رسوله فسألتها فاطمة رسول الله، فقال لها: ما لك أن تسأليني، ولا لي أن أعطيك! فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصنع فيها حيث أمره الله، ثم أبو بكر وعمر وعثمان، كانوا يضعونها المواضع التي وضعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم ولي معاوية فأقطعها مروان، ووهبها مروان لعبد الملك وعبد العزيز، فقسمناها بيننا أثلاثا: أنا والوليد وسليمان؛ فلما ولي الوليد سألته نصيبه فوهبه لي، وما كان لي مال أحبّ إلي منها؛ وأنا أشهدكم أني قد رددتها إلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقال عمر: الأمور ثلاثة: أمر استبان رشده فاتبعه؛ وأمر استبان ضرّه «3» فاجتنبه؛ وأمر أشكل أمره عليك فردّه إلى الله.
وكتب عمر إلى بعض عماله: الموالي ثلاثة: مولى رحم، ومولى عتاقة، ومولى عقد؛ فمولى الرحم يرث ويورث، ومولى العتاقة يورث ولا يرث، ومولى العقد لا يرث ولا يورث وميراثه لعصبته.
وكتب عمر إلى عماله: مروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية «1» ولا يتشبّهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحدا من الكفار يستخدم أحدا من المسلمين.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة عامله على العراق: إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق القادر عليك، واعلم أن ما لك عند الله أكثر مما لك عند الناس.
وكتب عمرو بن عبد العزيز إلى عماله:
مروا من كان قبلكم فلا يبقى أحد من أحرارهم ولا مماليكهم صغيرا ولا كبيرا، ذكرا ولا أنثى، إلا أخرج عنه صدقة فطر رمضان: مدّين من قمح، أو صاعا «2» من تمر، أو قيمة ذلك نصف درهم، فأما أهل العطاء فيؤخذ ذلك من أعطياتهم عن أنفسهم وعيالاتهم، واستعملوا على ذلك رجلين من أهل الأمانة يقبضان ما اجتمع من ذلك ثم يقسمانه في مساكين أهل الحاضرة، ولا يقسم على أهل البادية.
وكتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر: إنّ رجلا شتمك فأردت أن أقتله.
فكتب إليه: لو قتلته لأقدتك به، فإنه لا يقتل أحد بشتم أحد إلا رجل شتم نبيّا.
وكتب رجل من عمال عمر إلى عمر: إنا أتينا بساحرة، فألقيناها في الماء، فطفت على الماء؛ فما ترى فيها؟
فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا فخل سبيلها.
وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامله على المدينة في المظالم فيرادّه فيها، فكتب إليه:
إنه يخيّل لي أني لو كتبت لك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إليّ: أذكر أم أنثى؟
ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إليّ: أصغيرة أم كبيرة؟ ولو كتبت بأحدهما لكتبت: ضائنة «1» أم معزى؟ فإذا كتبت إليك فنفّذ ولا تردّ عليّ، والسلام.
وخطب عمر فقال:
أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها؛ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ
»
، وقال عز وجل:
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
«3» .
وقال عمر لبني مروان: أدّوا ما في أيديكم من حقوق الناس ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون! فلم يجبه أحد منهم، فقال: أجيبوني. فقال رجل منهم: والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنفقر أبناءنا، ونكفر آباءنا، حتى تزايل رءوسنا فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا عليّ بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت «4» خدودكم عاجلا، ولكنني أخاف الفتنة. ولئن أبقاني الله لأردّنّ إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله!.
وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية قال: إني أرى رقابا سترد إلى أربابها.
ولما مات عمر بن عبد العزيز قعد مسلمة على قبره فقال: أما والله ما أمنت الرّقّ حتى رأيت هذا القبر.
العتبي قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دفن سليمان بن الملك تبعه الأمويون، فلما دخل إلى منزله قال له الحاجب: الأمويون بالباب. قال: وما يريدون؟ قال: ما عوّدتهم الخلفاء قبلك. قال ابنه عبد الملك وهو إذ ذاك ابن أربع عشرة سنة: ائذن لي في إبلاغهم عنك. قال: وما تبلغهم؟ قال: أقول: أبي يقرئكم السلام ويقول لكم إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
«1» .
زياد عن مالك قال: قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: يا أبت، مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! قال له عمر:
لا تعجل يا بنيّ؛ فإنّ الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذلك فتنة.
ولما نزل بعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الموت قال له عمر: كيف تجدك يا بنيّ؟ قال أجدني في الموت، فاحتسبني، فثواب الله خير لك مني، فقال: يا بني، والله لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك. قال: أما والله لأن يكون ما تحب، أحبّ إليّ من أن يكون ما أحب! ثم مات، فلما فرغ من دفنه وقف على قبره وقال: يرحمك الله يا بنيّ فلقد كنت سارّا مولودا، وبارّا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني؛ فرحم الله كل عبد، من حر أو عبد، ذكر أو أنثى دعا لك برحمة! فكان الناس يترحمون على عبد الملك ليدخلوا في دعوة عمر؛ ثم انصرف، فدخل الناس يعزونه، فقال: إن الذي نزل بعبد الملك أمر لم نزل نعرفه، فلما وقع لم ننكره! وتوفيت أخت لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دفنها دنا إليه رجل فعزاه، فلم يردّ عليه، ثم آخر فلم يردّ عليه؛ فلما رأى الناس ذلك أمسكوا، ومشوا معه فلما دخل الباب أقبل على الناس بوجهه، فقال: أدركت الناس وهم لا يعزّون في المرأة إلا أن تكون أماّ.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید