المنشورات

أخبار هشام بن عبد الملك

أبو الحسن المدائني قال: كان عبد الملك بن مروان رأى في منامه أن عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقلت «1» رأسه فقطعته عشرين قطعة، فغمّه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب فقصها عليه، فقال سعيد:
تلد غلاما يملك عشرين سنة.
وكانت عائشة أمّ هشام حمقاء، فطلقها عبد الملك لحمقها، وولدت هشاما وهي طالق، ولم يكن في ولد عبد الملك أكمل من هشام.
قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك بعد أن سخط «2» على خالد ابن عبد الله القسري وسلط عليه يوسف بن عمر عامله على العراق، فلما دخلت عليه استدناني «3» حتى كنت أقرب الناس إليه فتنفس الصعداء، ثم قال: يا خالد، رب خالد قعد مقعدك هذا أشهى إليّ حديثا منك! فعلمت أنه يريد خالد بن عبد الله القسري، قلت: يا أمير المؤمنين، أفلا تعيده؟ قال: هيهات، إنّ خالدا أدلّ فأملّ، وأوجف «4» فأعجف «5» ، ولم يدع لمراجع مرجعا؛ على أنه ما سألني حاجة قط! فقلت: يا أمير المؤمنين، فلو أدنيته فتفضلت عليه! قال: هيهات، وأنشد:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... عليه بوجه آخر الدّهر تقبل
قال أصبغ بن الفرج: لم يكن في بني مروان من ملوكها أعطر ولا ألبس من هشام؛ خرج حاجّا فحمل ثياب طهره على ستمائة جمل.
ودخل المدينة، فقال لرجل: انظر من في المسجد. فقال: رجل طويل آدم أدلم «6» . قال: هذا سالم بن عبد الله، ادعه. فأتاه فقال: أجب أمير المؤمنين، وإن شئت أرسل فتؤتى بثيابك. فقال: ويحك! أتيت الله زائرا في رداء وقميص ولا أدخل بهما على هشام! فدخل عليه، فوصله بعشرة آلاف، ثم قدم مكة فقضى حجه، فلما رجع إلى المدينة قيل له: إن سالما شديد الوجع. فدخل عليه وسأله عن حاله.
ومات سالم فصلى عليه هشام وقال: ما أدري بأي الأمرين أنا أسرّ: بحجتي أم بصلاتي على سالم.
قال: ووقف هشام يوما قريبا من حائط فيه زيتون له، فسمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: التقطوه ولا تنفضوه، فتفقئوا عيونه، وتكسروا غصونه.
وخرج هشام هاربا من الطاعون، فانتهى إلى دير فيه راهب، فأدخله الراهب بستانه، فجعل ينتقي له أطايب الفاكهة والبالغ منها، فقال هشام: يا راهب، هبني بستانك هذا! فلم يجبه، فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: وددت أنّ الناس كلّهم ماتوا غيرك! قال: ولم؟ قال: لعلك أن تشبع! فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أتسمع ما يقول؟ قال الأبرش: بلى، والله ما لقيك حرّ غيره.
العتبي قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم بن محمد بن طلحة، وصاحب حرس هشام، حتى قعدا بين يديه، فقال الحرسيّ «1» : إن أمير المؤمنين جرّاني «2» في خصومة بينه وبين إبراهيم. قال القاضي: شاهديك على الجراية «3» . فقال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه السترة؟ قال: لا، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام، فلم يلبث حتى قعقعت الأبواب وخرج الحرسي فقال: هذا أمير المؤمنين. قال: فقام القاضي فأشار إليه فقعد، وبسط له مصلى فقعد عليه هو وإبراهيم؛ وكنا حيث نسمع بعض كلامهما ويخفى علينا البعض، قال: فتكلما وأحضرت البينة، فقضى القاضي على هشام، فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك! فقال هشام: لقد هممت أن أضربك ضربة ينثر منها لحمك عن عظمك! قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنّه بشيخ كبير السنّ، قريب القرابة، واجب الحق. قال له: استرها عليّ يا إبراهيم! قال: لا ستر الله عليّ ذنبي إذا يوم القيامة. قال: إني معطيك عليها مائة ألف ... قال إبراهيم: فسترتها عليه طول حياته ثمنا لما أخذت منه، وأذعتها عنه بعد موته تزيينا له.
وذكروا عن الهيثم بن عدي قال: كان سعيد بن هشام بن عبد الملك عاملا لأبيه على حمص، وكان يرمى بالنساء والشراب، فقدم حمصيّ لهشام، فلقيه أبو جعد الطائي في طريق، فقال له: هل ترى أن أعطيك هذه الفرس- فإني لا أعلم بمكان مثلها- على أن تبلغ هذا الكتاب أمير المؤمنين، ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم؟ فأخذها وأخذ الكتاب، فلما قدم على هشام سأله: ما قصة هذا الفرس؟
فأخبره؛ فقال: هات الكتاب، فإذا فيه:
أبلغ إليك أمير المؤمنين فقد ... أمددتنا بأمير ليس عنّينا»
طورا يخالف عمرا في حليلته ... وعند ساحته يسقي الطّلا دينا «2»
فلما قرأ الكتاب بعث إلى سعيد فأشخصه؛ فلما قدم عليه علاه بالخيزرانة وقال: يا بن الخبيثة، تزني وأنت ابن أمير المؤمنين! ويلك! أعجزت أن تفجر فجور قريش؟
أو تدري ما فجور قريش لا أم لك؟ قتل هذا، وأخذ مال هذا؛ والله لا تلي لي عملا حتى تموت! قال: قال: فما ولي له عملا حتى مات.
أحمد بن عبيد قال: أخبرني هشام الكلبي عن أبي محمد بن سفيان القرشيّ عن أبيه قال: كنا عند هشام بن عبد الملك وقد وفد عليه وفد أهل الحجاز، وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم، فحضرت كلامهم، حتى قام محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدويّ، وكان أعظم القوم قدرا، وأكبرهم سنا؛ فقال:
أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك ما قالت؛ وأكثرت وأطنبت؛ والله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى خطيبهم فضلك، وإن أذنت في القول قلت. قال: قل وأوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى؛ وزيّنك بالتقوى؛ وجمع لك خير الآخرة والأولى؛ إن لي حوائج، أفأذكرها؟. قال: هاتها.
قال: كبرت سنّي، ونال الدهر مني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري، فعل. قال: وما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك؟ قال: ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار. قال: فأطرق هشام طويلا ثم قال: يا بن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما ذكرت. ثم قال له: هيه! قال: ما هيه؟ أما والله إن الأمر لواحد، ولكنّ الله آثرك لمجلسك؛ فإن تعطنا فحقّنا أديت، وإن تمنعنا نسأل الله الذي بيده ما حويت؛ يا أمير المؤمنين، إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة. والله لأن أحبّك أحبّ إليّ من أن أبغضك؛ قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينا قد حمّ قضاؤه! «1» وعناني حمله، وأضرّ بي أهله. قال: فلا بأس، تنفس كربة، وتؤدي أمانة. وألف دينار لماذا؟ قال: أزوّج بها من بلغ من ولدي. قال: نعم المسلك سلكت، أغضضت بصرا، وأعففت ذكرا، وأمّرت «2» نسلا. وألف دينار لماذا؟
قال: أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب «3» دهري، وتكون ذخرا لمن بعدي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالمحمود الله على ذلك، وخرج.
فأتبعه هشام بصره، وقال: إذا كان القرشي فليكن مثل هذا، ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه، ثم قال: أما والله إنا لنعرف الحق إذا نزل، ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وما نحن إلا خزّان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإذا أذن أعطينا، وإذا منع أبينا، ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق، ما جبهنا «1» قائلا، ولا رددنا سائلا؛ ونسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا، فإنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بعباده خبير بصير.
فقالوا يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ كلامه ما قصصت.
قال: إنه مبتديء، وليس المبتديء كالمقتدي.
وذكروا أن العباس بن الوليد وجماعة من بني مروان اجتمعوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيد وعابوه وذموه، وكان هشام يبغضه، ودخل الوليد، فقال له العباس:
يا وليد، كيف حبّك للروميات، فإن أباك كان مشغوفا بهن؟ قال: كيف لا يكون وهن يلدن مثلك! قال: ألا تسكت يا ابن البظراء؟ قال: حسبك أيها المفتخر علينا بختان أمّك! وقال له هشام: ما شرابك يا وليد؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين ... وقام يخرج، فقال لهم هشام: هذا الذي زعمتموه أحمق.
وقرّب الوليد بن يزيد فرسه فجمع جراميزه «2» ووثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد هشام، وقال له: هل يقدر أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا. فقال الناس: لم ينصفه في الجواب.
العتبي عن أبيه، قال: سمعت معاوية بن عمرو بن عتبة يحدث قال: إني لقاعد بباب هشام بن عبد الملك، وكان الناس يتقرّبون إليه بعيب الوليد بن يزيد، قال فسمعت قوما يعيبونه، فقلت: دعونا من عيب من يلزمنا مدحه، ووضع من يجب علينا رفعه. وكانت للوليد بن يزيد عيون لا يبرحون بباب هشام، فنقلوا إليه كلامي وكلام القوم، فلم ألبث إلا يسيرا حتى راح إليّ مولى للوليد قد التحف على ألف دينار، فقال لي: يقول لك مولاي: أنفق هذه في يومك وغدا أمامك قال:
فملئت رعبا من هشام وخشيت سطوته، ورماه الله بالعلّة، فدفنّاه لثمانية عشر يوما بعد ذلك اليوم.
فلما قام الوليد بعده دخلت عليه، فقال لي: يا ابن عتبة، أتراني ناسيا قعودك بباب الأحول «1» ، يهدمني وتبنيني، ويضعني وترفعني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، شاركت قومك في الإحسان، وتفردت دونهم بإحسانك إلى، فلست أحمد لك نفسي في اجتهاد، ولا أعذرها في تقصير، وتشهد بذلك ألسنة الجائزين بنا، ويصدق قولهم الفعال منا. قال: كذلك أنتم لنا آل أبي سفيان، وقد أقطعتك مالي بالبثنيّة «2» وما أعلم لقرشي مثله.
وقال عبد الله بن عبد الحكم فقيه مصر: سمعت الأشياخ يقولون: سنة خمس وعشرين ومائة، أديل من الشرف، وذهبت المروءة. وذلك عند موت هشام بن عبد الملك.
قال أبو الحسن المدائني: مات هشام بن عبد الملك بالذّبحة يوم الأربعاء بالرصافة في ربيع الآخر لست خلون منه سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه سلمة بن هشام أو بعض ولده، واشترى له كفر «3» من السوق.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید