المنشورات

خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

بويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لستّ خلون من ربيع الآخرة سنة خمس وعشرين ومائة؛ وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، أخي الحجاج بن يوسف.
وقتل بالبخراء من تدمر على ثلاثة أميال، يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن خميس وثلاثين أو ست وثلاثين. قال حاتم بن مسلم: ابن خمس وأربعين وأشهر.
وكانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما.
فأول شيء نظر فيه الوليد أن كتب إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك أن يأتي الرصافة يحصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عماله وحشمه «1» ، إلا مسلمة ابن هشام، فإنه كتب إليه أن لا يعرض له ولا يدخل منزله؛ وكان مسلمة كثيرا ما يكلم أباه في الرفق بالوليد. ففعل العباس ما أمره به.
وكتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر، فقدم عليه من العراق، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري، محمدا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المخزومي، وأمر بقتلهم. فحدّث أبو بشر بن السري قال: رأيتهم حين قدم بهم يوسف بن عمر الحيرة، وخالد في عباءة في شق مخمل، فعذبهم حتى قتلهم.
ثم عكف الوليد على البطالة وحب القيان والملاهي والشراب ومعاشقة النساء، فتعشّق سعدى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فتزوجها؛ ثم تعشق أختها سلمى فطلق أختها سعدى وتزوج سلمى، فرجعت سعدى إلى المدينة فتزوجت بشر ابن الوليد بن عبد الملك، ثم ندم الوليد على فراقها وكلف بحبها، فدخل عليه أشعب المضحك، فقال له الوليد: هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرون ألف درهم؟ قال: هاتها. فدفعها إليه، فقبضها وقال: ما رسالتك؟ قال: إذا قدمت المدينة فاستأذن عليها وقل لها: يقول لك الوليد:
أسعدى ما إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق
بلى ولعلّ دهرا أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو فراق
فأتاها أشعب فاستأذن عليها، وكان نساء المدينة لا يحتجبن عنه؛ فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب؟ قال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة. قالت: هاتها.
فأنشدها البيتين، فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث ... وقالت: ما جرّأك على مثل هذه الرسالة؟ قال: إنها بعشرين ألفا معجلة مقبوضة! قالت والله لأجلدنك أو لتبلغنّه عني كما أبلغتني عنه. قال: فاجعلي لي جعلا «1» . قالت: بساطي هذا. قال:
فقومي عنه. فقامت عنه، وطوى البساط وضمه، ثم قال: هاتي رسالتك. فقالت له: قل له:
أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى، فما أنت صانع
فلما بلّغه الرسالة كظم الغيظ على أشعب، وقال: اختر إحدى ثلاث خصال، ولا بد لك من إحداها: إما أن أقتلك، وإما أن أطرحك للسباع فتأكلك، وإما أن ألقيك من هذا القصر! فقال أشعب، يا سيدي، ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى! فضحك وخلى سبيله.
وأقامت عنده سلمى حتى قتل عنها، وهو القائل في سلمى:
شاع شعري في سليمى وظهر ... ورواه كلّ بدو وحضر
وتهادته الغواني بينها ... وتغنّين به حتى انتشر
لو رأينا من سليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للأثر
واتخذناها إماما مرتضى ... ولكانت حجّنا والمعتمر
إنما بنت سعيد قمر ... هل حرجنا أن سجدنا للقمر
وفيها يقول قبل تزوجه لها:
حدّثوا أنّ سليمى ... خرجت يوم المصلّى
فإذا طير مليح ... فوق غصن يتفلّى «2»
قلت يا طير ادن منّي ... فدنا ثم تدلي
قلت هل تعرف سلمى ... قال لا ثمّ تولى
فنكا في القلب كلما ... باطنا ثمّ تخلى «1»
وقال في سلمى قبل تزوجه لها:
لعلّ الله يجمعني بسلمى ... أليس الله يفعل ما يشاء
ويأتي بي ويطرحني عليها ... فيوقظني وقد قضي القضاء
ويرسل ديمة من بعد هذا ... فتغسلنا وليس بنا عناء «2»
وقال فيها بعد تزوجه لها:
أنا في يمنى يديها ... وهي في يسرى يديّه
إنّ هذا لقضاء ... غير عدل يا أخيّه
ليت من لام محبّا ... في الهوى لاقى منيّه
فاستراح الناس منه ... ميتة غير سويّه
قال: ولهج الوليد بالنساء والشراب والصيد، فأرسل إلى المدينة فحملوا له المغنين، فلما قرّبوا إليه أمر أن يدخلوا العسكر ليلا، وكره أن يراهم الناس، فأقاموا حتى أمسوا غير محمد بن عائشة فإنه دخل نهارا، فأمر الوليد بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى شرب الوليد يوما فطرب فكلمه معبد، فأمر الوليد بإخراجه، ودعاه فغناه فقال:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تعطف عليك الحنيّ والولج «3»
فرضي عنه؛ وكان سعيد الأحوص ومعبد، قدما على الوليد ونزلا في الطريق على غدير وجارية تستقي، فزاغت، فانكسرت الجرّة، فجلست تغني:
يا بيت عاتكة الذي أتغزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل
فقال: يا جارية، لمن أنت؟ فقالت: كنت لآل الوليد بن عقبة بالمدينة، فاشتراني مولاي، وهو من بني عامر بن صعصعة أحد بني الوحيد من بني كلاب، وعنده بنت عم له، فوهبني لها، فأمرتني أن أستقي لها. فقال لها: فلمن الشعر؟ قالت: سمعت بالمدينة أن الشعر للأحوص والغناء لمعبد. فقال معبد للأحوص: قل شيئا أغني عليه.
فقال:
إنّ زين الغدير من كسر الجرّ ... وغنّى غناء فحل مجيد
قلت: من أنت يا مليحة؟ قالت: ... كنت فيما مضى لآل الوليد
ثم قد صرت بعد عزّ قريش ... في بني عامر لآل الوحيد
وغنائي لمعبد ونشيدي ... لفتى الناس الأحوص الصّنديد «1»
فتضاحكتّ ثم قلت أنا الأحوص ... والشيخ معبد فأعيدي
فأعادت وأحسنت ثم ولت ... تتهادى فقلت أمّ سعيد
يقصر المال عن شراك ولكن ... أنت في ذمّة الإمام الوليد
وأم سعيد كانت للأحوص بالمدينة.
فغنى معبد على الشعر، فقال: ما هذا؟ فأخبراه، فاشتراها الوليد.
قال أبو الحسن: وقال ابن أبي الزناد: إني كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكرا الوليد فتنقّصاه وعاباه عيبا شديدا، ولم أعرض لشيء مما كان فيه، فاستأذن فأذن له، فدخل وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلا ثم قام؛ فلما مات هشام كتب فيّ، فحملت إليه، فرحب بي وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطف المسألة، ثم قال:
أتذكر هشاما الأحول وعنده الفاسق الزهري وهما يعيباني؟ فقلت: أذكر ذلك، ولم أعرض لشيء مما كانا فيه. قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان على رأس هشام قائما؟ قلت: نعم. قال: فإنه نمّ إليّ بما قالاه، وايم الله لو بقي الفاسق الزهري لقتلته.
قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. قال: يا بن ذكوان، ذهب الأحول!
قلت: يطيل الله عمرك، ويمتع الأمة ببقائك. ودعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وجلس فقال: اسقني. فجاءوا بإناء مغطى، وجيء بثلاث جوار، فصففن بيني وبينه حتى شرب، وذهبن فتحدثنا، واستسقى «1» ، فصنعوا مثل ذلك، فما زال كذلك: يستسقي ويتحدث ويصنعون مثل ذلك، حتى طلع الفجر؛ فأحصيت له سبعين قدحا.
علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشراعة من الكوفة؛ فو الله ما سأله عن نفسه ولا عن مسيره حتى قال له: يا شراعة. أنا والله ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب الله وسنة رسوله. قال: والله لو سألتني عنهما لوجدتني فيهما حمارا. قال: إنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة! قال: دهقانها «2» الخبير، ولقمانها الحكيم، وطبيبها العليم! قال: فأخبرني عن الشراب. قال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: ما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه، والحمار شريكي فيه! قال: ما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي لطول ما أرضعتني به! قال: ما تقول في السويق «3» ؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فنبيذ التمر؟
قال: سريع الملء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: تلهّوا به عن الشراب. قال: ما تقول في الخمر؟ قال: أوّه! تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي، فأي المجالس أحب؟ قال: ما شرب الكأس قط على وجه أحسن من السماء.
قال أبو الحسن: كان أبو كامل مضحكا غزلا مغنيا، فغنى الوليد يوما فطرب فأعطاه قلنسوة بردا «4» كانت عليه؛ فكان أبو كامل لا يلبسها إلا في عيد، ويقول:
كسانيها أمير المؤمنين، فأنا أصونها؛ وقد أمرت أهلي إذا متّ أن توضع في أكفاني، وله يقول الوليد:
من مبلغ عني أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهابل
وزادني شوقا إلى قربة ... ما قد مضى من دهرنا الحائل
إني إذا عاطيته مزّة ... ظلت بيوم الفرح الجاذل «1»
قال: وجلس الوليد يوما وجارية تغنيه؛ فأنشدت الوليد:
قينة في يمينها إبريق
فأنشده حماد الراوية:
ثم نادى ألا اصبحوني فقامت ... قينة في يمينها إبريق
فدّمته على عقار كعين الدّيك ... صفّى سلافه الرّاووق «2»
مزّة قبل مزجها، فإذا ما ... مزجت لذّ طعمها من يذوق
وكتب الوليد إلى المدينة فحمل إليه أشعب، فألبسه سراويل جلد قرد له ذنب؛ وقال له: ارقص وغنّ صوتا يعجبني؛ فإن فعلت أعطيتك ألف درهم. فرقص وغنى فأعجبه؛ فأعطاه ألف درهم:
وأنشد الوليد هذا:
علّلاني واسقياني ... من شراب أصفهاني
من شراب الشيخ كسرى ... أو شراب الهرمزان «3»
إنّ بالكأس لمسكا ... أو بكفّي من سقاني
إنما الكأس ربيع ... يتعاطى بالبنان «4»
وقال أيضا:
وصفراء في الكأس كالزعفران ... سباها الدّهاقين من عسقلان
لها حبب كلما صفّقت ... تراها كلمعة برق يماني
وقال أيضا:
ليت حظّي اليوم من كلّ معاش لي وزاد
قهوة أبذل فيها ... طارفي بعد تلادي «1»
فيظلّ القلب منها ... هائما في كلّ وادي
إنّ في ذاك فلاحي ... وصلاحي ورشادي! «2»
وقال:
امدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش
وبلغ الوليد أن الناس يعيبونه ويتنقّصونه بالشراب وطلب اللذات؛ فقال في ذلك:
ولقد قضيت ولم يجلّل لمتي ... شيب على رغم العدا لذّاتي «3»
من كاعبات كالدّمى ومناصف ... ومراكب للصيد والنّشوات «4»
في فتية تأبى الهوان وجوههم ... شمّ الأنوف جحاجح سادات «5»
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات
وقال معاوية بن عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناس وطعنوا «6» عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني إليك الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك؛ أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال كلّ مقبول منك ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك، بأيام.
وقال إذ كثر القول فيه:
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوي ما حييت عقالا «1»
دعوا لي سليمى مع طلاء وقينة ... وكأس، ألا حسبي بذلك مالا»
أبا لملك أرجو أن أخلّد فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا
ألا ربّ دار قد تحمّل أهلها ... فأضحت قفارا والقفار حلالا «3»
قال إسحاق بن محمد الأزرق: دخلت على منصور بن جمهور الكلبي بعد قتل الوليد بن يزيد، وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال لي: اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان: قالتا: قد حدّثناك. قال: بل حدّثاه كما حدثتماني. قالت إحداهما: كنا أعزّ جواريه عنده، فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة، فأخرجها وهي سكرى جنبة متلثّمة، فصلّت بالناس.














مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید