المنشورات

مقتل مروان بن محمد بن مروان

قال: والتقى مروان وعامر بن إسماعيل ببوصير من أرض مصر، فقاتلوهم ليلا، وعبد الله وعبيد الله ابنا مروان واقفان في ناحية في جمع من أهل الشام، فحمل عليهم أهل خراسان فأزالوهم عن مراكزهم، ثم كرّوا عليهم فهزموهم حتى ردّوهم إلى عسكرهم، ورجعوا إلى موقفهم؛ ثم إنّ أهل الشام بدءوهم فحملوا على أهل خراسان فكشفوا كشفا قبيحا، ثم رجعوا إلى أماكنهم وقد مضى عبيد الله وعبد الله، فلم يروا أحدا من أصحابهم، فمضوا على وجوههم وذلك في السحر.
وقتل مروان وانهزم الناس، وأخذوا عسكر مروان وما كان فيه، وأصبحوا فاتبعوا الفلّ «1» ، وتفرّق الناس؛ فجعلوا يقتلون من قدروا عليه، ورجع أهل خراسان عنهم.
فلما كان الغد لحق الناس بعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وجعلوا يأتونهما متقطعين العشرة والعشرين وأكثر وأقل؛ فيقولان: كيف أمير المؤمنين؟ فيقول بعضهم: تركناه يقاتلهم. ويقول بعضهم: انحاز وثاب إليه قوم ولا يتبعونه. حتى أتوا الحرون، فقال، كنت معه أنا ومولى له، فصرع فجررت برجله، فقال: أوجعتني! فقاتلت أنا ومولاه عنه؛ وعلموا أنه مروان فألحوا عليه، فتركته ولحقت بكم. فبكى عبد الله، فقال له أخوه عبيد الله: يا ألأم الناس! فررت عنه وتبكي عليه؟ ومضوا، فقال بعضهم: كانوا أربعة آلاف. وقال بعضهم: كانوا ألفين، فأتوا بلاد النوبة، فأجرى عليهم ملك النوبة ما يصلحهم، ومعهم أم خالد بنت يزيد، وأم الحكم بنت عبيد الله- صبية جاء بها رجل من عسكر مروان حين انهزموا- فدفعها إلى أبيها.
ثم أجمع ابنا مروان على أن يأتيا اليمن، وقالا: نأتيها قبل أن يأتيها المسوّدة «1» فنتحصّن في حصونها وندعو الناس. فقال لهم صاحب النوبة لا تفعلوا إنكم في بلاد السودان وهم في عدد كثير، ولا آمن عليكم؛ فأقيموا. فأبوا، قال: فاكتبوا لي كتابا، فكتبوا له: إنا قدمنا بلادك فأحسنت مثوانا، وأشرت علينا أن لا نخرج من بلادك، فأبينا، وخرجنا من عندك وافرين راضين شاكرين لك بطيب أنفسنا.
وخرجوا فأخذوا في بلاد العدو، فكانوا ربما عرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاح، وأكثر من ذلك لا يعرضون له؛ حتى أتوا بعض بلادهم فتلقاهم عظيمهم فاحتبسهم، فطلبوا الماء فمنعهم، ولم يقاتلهم ولم يخلّهم وعطشهم، وكان يبيعهم القربة بخمسين درهما، حتى أخذ منهم مالا عظيما.
ثم خرجوا فساروا حتى عرض لهم جبل عظيم بين طريقين فسلك عبد الله أحدهما في طائفة، وسلك عبيد الله الآخر في طائفة أخرى، وظنوا أن للجبل غابة يقطعونها ثم يجتمعون عند آخرها، فلم يلتقوا.
وعرض قوم من العدو لعبيد الله وأصحابه فقاتلوهم، فقتل عبيد الله، وأخذت أم الحكم بنته وهي صبية، وقتل رجل من أصحابه، وكفوا عن الباقين وأخذوا سلاحهم.
وتقطع الجيش، يتنكبون «1» العمران، فيأتون الماء فيقيمون عليه الأيام، فتمضى طائفة وتقيم الأخرى، حتى بلغ العطش منهم؛ فكانوا يتحرون الدابة فيقطعون أكراشها فيشربونه، حتى وصلوا إلى البحر بحيال المندب؛ ووافاهم عبد الله وعليه مقرمة «2» قد جاء بها، فكانوا جميعا خمسين أو أربعين رجلا، فيهم الحجاج بن قتيبة ابن مسلم الحرون، وعفان مولى بني هاشم، فعبروا إليهم البحر في السفن، فمشوا إلى المندب، فأقاموا بها شهرا فلم تحملهم، فخرجوا إلى مكة. وقال بعضهم: أعلم بهم العامل، فخرجوا مع الحجاج عليهم ثياب غلاظ وجباب الأكرياء «3» ، حتى وافوا جدة وقد تقطعت أرجلهم من المشي، فمرّوا بقوم فرقّوا لهم فحملوهم، وفارق عبد الله الحجاج بجدة، ثم حجوا وخرجوا من مكة إلى تبالة.
وكان على عبد الله فصّ «4» أحمر كان قد غيّبه حين عبر إلى المندب، فلما أمن استخرجه، وكانت قيمته ألف دينار، وكان يقول وهو يمشي: ليت به دابة! حتى صار في مقرمة تكون عليه بالنهار فيلبسها بالليل؛ فقالوا: ما رأينا مثل عبد الله، قاتل فكان أشد الناس، ومشوا فكان أقواهم؛ وجاعوا فكان أصبرهم وعروا فكان أحسنهم عريا! وبعث وهو بالمندب إلى العدو الذين أخذوا أم الحكم بنت أخيه عبيد الله، ففداها وردّها إليه؛ فكانت معه.
ثم أخذ عبد الله فقدم به على المهدي، فجاءت امرأته بنت يزيد بن محمد بن مروان بن الحكم، فكلمت العباس بن يعقوب كاتب عيسى بن علي وأعطته لؤلؤا، ليكلم فيه عيسى: فكلمه وأعلمه بما أعطته؛ فلم يكلم فيه عيسى بن علي المهديّ؛ وأراد المهدي أن يقتله؛ فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بيعة؛ وقد أعطى كاتبي قيمة ثلاثين ألف درهم. فحبسه المهدي.
وكان عبد الله بن مروان تزوج أم يزيد ابنة يزيد بن محمد بن مروان؛ وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العباس خرجت إلى مكة فأقامت بها، وقدم عبد الله بن مروان سرّا فتزوجها.
وقال مولى مروان: كنت مع مروان وهو هارب؛ فقال لي يوما: أين عزبت «1» عنا حلومنا في نسائنا؟ ألا زوّجناهم من أكفائهن من قريش فكفينا مؤنتهن اليوم.
وقال بعض آل مروان: ما كان شيء أنفع لنا في هربنا من الجوهر الخفيف الثمن الذي يساوي خمسة دنانير فما دونها: كان يخرجه الصبي والخادم فيبيعه، وكنا لا نستطيع أن نظهر الجوهر الثمين الذي له قيمة كثيرة.
وقال مصعب بن الربيع الخثعمي كاتب مروان بن محمد: لما انهزم مروان وظهر عبد الله بن علي على أهل الشام، طلبت الإذن؛ فأنا عنده جالس وهو متكيء؛ إذ ذكر مروان وانهزامه فقال: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير. قال لي مروان:
احزر «2» القوم. فقلت: إنما أنا صاحب قلم ولست بصاحب حرب. فأخذ يمنة ويسرة فقال لي: هم اثنا عشر ألف رجل.
وقال مصعب: قيل لمروان: قد انتهب بيت المال الصغير! فانصرف يريد بيت المال، فقيل له: قد انتهب بيت المال الأكبر، انتهبه أهل الشام.
وقال أبو الجارود السلمي: حدثني رجل من أهل خراسان قال: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشام كأنهم جبال حديد، فجثونا على الرّكب «3» وأشرعنا «4» الرماح، فزالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشام، فخرج إليه رجل منا، فقتله الشامي؛ ثم خرج إليه آخر، فقتله؛ حتى والى بين ثلاثة؛ فقال رجل منا: اطلبوا لي سيفا قاطعا وترسا صلبا. فأعطيناه ومشى إليه، فضربه الشامي فاتّقاه بالترس وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع، فحملناه وكبرنا، فإذا هو عبيد الله الكابلي.
سمر المنصور ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، وكانت همتهم مع عظم شأن الملك وجلالة قدره، قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله ومساخطه جهلا باستدراج الله وأمنا لمكره؛ فسلبهم الله العز ونقل عنهم النعمة. فقال له صالح ابن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل النوبة هاربا فيمن تبعه، سأل ملك النوبة عنهم فأخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه «1» عن بلده؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك! فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة، فقال:
يا أمير المؤمنين، قدمنا أرض النوبة وقد خبّر الملك بأمرنا، فدخل عليّ رجل أقنى «2» الأنف طوال حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟
قال: لأني ملك، ويحق على الملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله! ثم قال لأي شيء تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟
قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وغلماننا وأتباعنا، لأن الملك قد زال عنا.
قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟
قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم.
قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرّم عليكم؟
قلت: ذهب الملك عنا وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا.
قال: فأطرق مليا وجعل يقلب يده وينكت الأرض ويقول عبيدنا وأتباعنا، وقوم دخلوا في ديننا، وزال الملك عنا!! يردده مرارا، ثم قال: ليس ذلك كذلك: بل أنتم قوم قد استحللتم ما حرم الله، وركبتم ما نهاكم عنه وظلمتم من ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها؛ وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزوّدوا ما احتجتم وارتحلوا عن بلدي.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید