المنشورات

محمد بن عبد الرحمن

ثم ولي الملك محمد بن عبد الرحمن، يوم الخميس لثلاث [خلون] من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملك أربعا وثلاثين سنة، وتوفي يوم الجمعة مستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وهو ابن سبع وستين سنة.
وكتب عبد الرحمن بن الشمر إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن- وكان يتجنب الوقوف ببابه مخافة نصر الفتى- فلما مات نصر كتب ابن الشمر هذه الأبيات إلى محمد يقول فيها:
لئن غاب وجهي عنك إنّ مودّتي ... لشاهدة في كلّ يوم تسلّم
وما عاقني إلا عدوّ مسلّط ... يذلّ ويقصي من يشاء ويرغم
ولم يستطل إلا بكم وبعزّكم ... ولا ينبغي أن يمنح العزّ مجرم
فمكنتموه فاستطال عليكم ... وكادت بنا نيرانه تتضرّم
كذلك كلب السّوء إن يشبع انبرى ... لمشبعه مستشليا يترمرم «1»
فجمّع إخوانا لصوصا أراذلا ... ومنّاهم أن يقتلونا ويغنموا
رأى بأمين الله سقما فغرّه ... ولم يك يدري أنّه يتقدّم
فنحمد رباّ سرّنا بهلاكه ... فما زال بالإحسان والطّول ينعم
أراد يكيد الله نصر فكاده ... ولله كيد يغلب الكيد، مبرم
بكى الكفر والشّيطان نصرا فأعولا ... كما ضحكت شوقا إليه جهنّم
وكانت له في كلّ شهر جباية ... جباية آلاف تعد وتخّتم
فهل حائط الإسلام يوما يسومهم ... بما اجترموا يوما عليه وأقدموا «2»
وينهبنا أموالهم وهو فاعل ... فإني أرى الدّنيا له تتبسم
ألا أيّها النّاس اسمعوا قول ناصح ... حريص عليكم مشفق وتفهّموا
محمّد نور يستضاء بوجهه ... وسيف بكفّ الله ماض مصمّ
فكونوا له مثل البنين يكن لكم ... أبا حدبا في الرحم بل هو أرحم «3»
فيا بن أمين الله لا زلت سالما ... معافّي فإنا ما سلمت سنسلم
ألست المرجّى من أمية والذي ... له المجد منها الأتلد المتقدّم «4»
وأنت لأهل الخير روح ورحمة ... نعم، ولأهل الشّرّ صاب وعلقم «1»
وحدث بقي بن مخلد الفقيه قال: ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا، ولا أبلغ لفظا من الأمير محمد؛ دخلت عليه يوما في مجلس خلافته فافتتح الكلام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم ذكر الخلفاء خليفة خليفة؛ فحكى كل واحد منهم بحليته ونعته ووصفه، وذكره مآثره ومناقبه، بأفصح لسان، وأبين بيان، حتى انتهى إلى نفسه فسكت.
وخرج الأمير محمد يوما متنزها إلى الرصافة ومعه هاشم بن عبد العزيز، فكان بها صدر نهاره على لذّاته، فلما أمسى واختلط الظلام رجع منصرفا إلى القصر وبه اختلاط؛ فأخبرني من سمعه وهاشم يقول له: يا سيدي يا بن الخلائف، ما أطيب الدنيا لولا، قال له: لولا ماذا؟ قال: لولا الموت! قال له: يا بن اللخناء لحنت «2» في كلامك؛ وهل ملكنا هذا الملك الذي نحن فيه إلا بالموت، ولولا الموت ما ملكناه أبدا.
وكان الأمير محمد غزّاء لأهل الشرك والخلاف، وربما أوغل في بلاد العدوّ الستة الأشهر أو أكثر، يحرق وينسف، وله في العدوّ وقيعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع؛ لم يعرف مثلها في الأندلس قبلها، وفيها يقول عباس بن فرناس، وشعره يكفينا من صفتها:
ومختلف الأصوات مؤتلف الزّحف ... لهوم الفلا عبل القبائل ملتفّ «3»
إذا أومضت فيه الصّوارم خلتها ... بروقا تراءى في الجهام وتستخفي «4»
كأنّ ذرّى الأعلام في سيلانه ... فراقد يم قد عجزن عن القذف «5»
وإن طحنت أركانه كان قطبها ... حجى ملك نجد شمائله عفّ
سميّ ختام الأنبياء محمد ... إذا وصف الأملاك جلّ عن الوصف
فمن أجله يوم الثلاثاء غدوة ... وقد نقض الإصباح عقد عرى السجف «1»
بكى جبلا وادي سليط فأعولا ... على النفر العبدان والعصبة الغلف «2»
دعاهم صريخ الحين فاجتمعوا له ... كما اجتمع الجعلان للبعر في قفّ «3»
فما كان إلّا أن رماهم ببعضها ... فولّوا على أعقاب مهزومة كشف «4»
كأنّ مساعير الموالي عليهم ... شواهين جادت للغرانيق بالسّيف»
بنفسي تنانير الوغى حين صمّمت ... إلى الجبل المشحون صفاّ على صفّ
يقول ابن بليوس لموسى وقد ونى ... أرى الموت قدّامي وتحتي ومن خلفي
قتلناهم ألفا وألفا ومثلها ... وألفا وألفا بعد ألف إلى ألف
سوى من طواه النهر في مستلجّه ... فأغرق فيه أو تدأدأ من جرف «6»












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید