المنشورات

عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين

ثم ولي الملك القمر الأزهر، الأسد الغضنفر، الميمون النقيبة، «3» المحمود الضريبة، سيد الخلفاء، وأنجب النجباء، عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين، صبيحة هلال ربيع الأول سنة ثلاثمائة، فقلت فيه:
بدا الهلال جديدا ... والملك غضّ جديد
يا نعمة الله زيدي ... ما كان فيه مزيد
وهي عدة أبيات، فتولى الملك وهي جمرة تحتدم، ونار تضطرم، وشقاق ونفاق، فأخمد نيرانها، وسكن زلزالها، وافتتحها عودا كما افتتحها بدءا سميّه عبد الرحمن بن معاوية رحمه الله.
وقد قلت وقيل في غزواته كلها أشعار قد جالت في الأمصار، وشردت في البلدان، حتى أتهمت وأنجدت وأعرقت، ولولا أن الناس متكتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذكرها أو ذكر بعضها، ولكنا سنذكر ما سبق إلينا من مناقبه التي لم يتقدمه إليها متقدّم ولا أخت لها ولا نظير. فمن ذلك أول غزاة غزاها، وهي الغزاة المعروفة بغزاة المنتلون، افتتح بها سبعين حصنا، كلّ حصن منها قد نكبت عنه الطوائف، وأعيا على الخلائف، وفيها أقول:
قد أوضح الله للإسلام منهاجا ... والناس قد دخلوا في الدّين أفواجا
وقد تزيّنت الدّنيا لساكنها ... كأنما ألبست وشيا وديباجا
يا بن الخلائف إنّ المزن لو علمت ... نداك ما كان منها الماء ثجّاجا «1»
والحرب لو علمت بأسا تصول به ... ما هيّجت من حميّاك الذي اهتاجا «2»
مات النّفاق وأعطى الكفر ذمّته ... وذلّت الخيل إلجاما وإسراجا
وأصبح النصر معقودا بألوية ... تطوي المراحل تهجيرا وإدلاجا «3»
أدخلت في قبّة الإسلام مارقة ... أخرجتها من ديار الشّرك إخراجا «4»
بجحفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالبحر يقذف بالأمواج أمواجا
يقوده البدر يسري في كواكبه ... عرمرما كسواد الليل رجراجا «5»
تروق فيه بروق الموت لامعة ... ويسمعون به للرّعد أهزاجا
غادرت في عقوتي جيّان ملحمة ... أبكيت منها بأرض الشّرك أعلاجا «6»
في نصف شهر تركت الأرض ساكنة ... من بعد ما كان فيها الجور قد ماجا
وجدت في الخبر المأثور منصلتا ... من الخلائف خرّاجا وولّاجا «7»
تملا بك الأرض عدلا مثل ما ملئت ... جورا وتوضح للمعروف. منهاجا
يا بدر ظلمتها، يا شمس صبحتها ... يا ليث حومتها إن هائج هاجا «8»
إنّ الخلافة لن ترضى ولا رضيت ... حتى عقدت لها في رأسك التّاجا
ولم يكن مثل هذه الغزاة لملك من الملوك في الجاهلية والإسلام.
وله غزاة مارشن «1» التي كانت أخت بدر وحنين، وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتها في مغازيه كلها من سنة إحدى وثلاثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وأوقفناها.
ومن مناقبه أن الملوك لم تزل تبني على أقدارها، ويقضى عليها بآثارها، وأنه بنى في المدة القليلة ما لم تبن الخلفاء في المدة الطويلة، نعم: لم يبق في القصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليته بنيّة «2» إلا وله فيها أثر محدث، إما تزييد أو تجديد.
ومن مناقبه أنه أول من سمى أمير المؤمنين من خلفاء بني أمية بالأندلس.
ومن مناقبه التي لا أخت لها ولا نظير، ما أعجز فيه من بعده، وفات فيه من قبله، من الجود الذي لم يعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له؛ وقد ذكرت ذلك في شعري الذي أقول فيه:
يا بن الخلائف والعلا للمعتلي ... والجود يعرف فضله للمفضل
نوّهت بالخلفاء بل أخملتهم ... حتى كأنّ نبيلهم لم ينبل
أذكرت بل أنسيت ما ذكر الألى ... من فعلهم فكأنه لم يفعل
وأتيت آخرهمّ وشأوك فائت ... للآخرين ومدرك للأوّل
ألآن سمّيت الخلافة باسمها ... كالبدر يقرن بالسّماك الأعزل «3»
تأبى فعالك أن تقرّ لآخر ... منهم وجودك أن يكون لأوّل
وهذه الأرجوزة التي ذكرت جميع مغازيه وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة، وهي:
سبحان من لم تحوه أقطار ... ولم تكن تدركه الأبصار
ومن عنت لوجهه الوجوه ... فما له ندّ ولا شبيه
سبحانه من خالق قدير ... وعالم بخلقه بصير
وأوّل ليس له ابتداء ... وآخر ليس له انتهاء
أوسعنا إحسانه وفضله ... وعزّ أن يكون شيء مثله
وجلّ أن تدركه العيون ... أو يحوياه الوهم والظّنون
لكنّه يدرك بالقريحة ... والعقل والأبينة الصّحيحة «1»
وهذه من أثبت المعارف ... في الأوجه الغامضة اللّطائف
معرفة العقل من الإنسان ... أثبت من معرفة العيان
فالحمد لله على نعمائه ... حمدا جزيلا وعلى آلائه «2»
وبعد حمد الله والتّمجيد ... وبعد شكر المبديء المعيد
أقول في أيام خير الناس ... ومن تحلّى بالنّدى والباس
ومن أباد الكفر والنّفاقا ... وشرّد الفتنة والشّقاقا
ونحن في حنادس كالليل ... وفتنة مثل غثاء السّيل «3»
حتى تولّى عابد الرّحمن ... ذاك الأعزّ من بني مروان
مؤيّد حكّم في عداته ... سيفا يسيل الموت من ظباته «4»
وصبّح الملك مع الهلال ... فأصبحا ندّين في الجمال
واحتمل التقوى على جبينه ... والدّين والدنيا على يمينه
قد أشرقت بنوره البلاد ... وأنقطع التشغيب والفساد
هذا على حين طغى النفاق ... واستفحل النكّاث والمرّاق «5»
وضاقت الأرض على سكانها ... وأذلت الحرب لظى نيرانها
ونحن في عشواء مدلهمّة ... وظلمة ما مثلها من ظلمه
تأخذنا الصّيحة كلّ يوم ... فما تلذّ مقلة بنوم
وقد نصلي العيد بالنواظر ... مخافة من العدوّ الثائر «1»
حتى أتانا الغوث من ضياء ... طبّق بين الأرض والسماء «2»
خليفة الله الذي أصطفاه ... على جميع الخلق واجتباه
من معدن الوحي وبيت الحكمة ... وخير منسوب إلى الأئمة
تكلّ عن معروفه الجنائب ... وتستحي من جوده السحائب «3»
في وجهه من نوره برهان ... وكفّه تقبيلها قربان
أحيا الذي مات من المكارم ... من عهد كعب وزمان حاتم
مكارم يقصر عنها الوصف ... وغرّة يحسر عنها الطّرف «4»
وشيمة كالصّاب أو كالماء ... وهمّة ترقى إلى السماء «5»
وانظر إلى الرفيع من بنيانه ... يريك بدعا من عظيم شانه
لو خايل البحر ندى يديه ... إذا لجت عفاته إليه «6»
لغاض أو لكاد أن يغيضا ... ولا استحى من بعد أن يفيضا «7»
من أسبغ النّعمى وكانت محقا ... وفتّق الدّنيا وكانت رتقا
هو الذي جمّع شمل الأمه ... وجاب عنها دامسات الظلمة
وجدّد الملك الذي قد أخلقا ... حتى رست أوتاده واستوسقا
وجمّع العدّة والعديدا ... وكثّف الأجناد والحشودا












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید