المنشورات

أخبار الحجاج

دخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة، فوجدها تتخلل «1» حين انفتلت «2» من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام البارحة، فإنك قذرة، وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة؛ كنت فبنت «3» ! قالت: والله ما فرحنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنّا؛ وما هو بشيء مما ظننت، ولكني استكت فأردت أن أتخلل للسواك! فندم المغيرة على ما بدر منه، فخرج أسفا، فلقي يوسف بن أبي عقيل، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلت الساعة عن سيدة نساء ثقيف، فتزوّجها، فإنها تنجب لك. فتزوّجها فولدت له الحجاج.
ومما رواه عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: إن الحجاج بن يوسف كان يعلّم الصبيان بالطائف، واسمه كليب؛ وأبوه يوسف معلم أيضا. وفي ذلك يقول مالك بن الرّيب:
فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّه ... يراوح صبيان القرى ويغادي «4»
ثم لحق الحجاج بن يوسف بروح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، إلى أن شكا عبد الملك بن مروان ما رأى من انحلال العسكر، وأن الناس لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله. فقال روح بن زنباع: يا أمير المؤمنين، إن في شرطتي رجلا لو قلّده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحلهم برحيله وأنزلهم بنزوله. يقال له الحجاج بن يوسف! قال: فإنا قد قلّدناه ذلك. فكان لا يقدر أحد [أن] يتخلف عن الرحيل والنزول، إلا أعوان روح بن زنباع؛ فوقف عليهم يوما وقد رحل الناس وهم على طعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقال له: انزل يا ابن اللخناء «1» فكل معنا. فقال: هيهات. ذهب ما هنالك. ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوّفهم في العسكر، وأمر بفساطيط «2» روح بن زنباع فأحرقت بالنار؛ فدخل بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكيا، فقال له:
مالك؟ فقال يا أمير المؤمنين، الحجاج بن يوسف الذي كان في عديد شرطتي، ضرب عبيدي وأحرق فساطيطي! قال: عليّ به. فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: ما أنا فعلته يا أمير المؤمنين! قال: ومن فعله؟ قال أنت والله فعلته؛ إنما يدي يدك، وسوطي سوطك؛ وما على أمير المؤمنين أن يخلف على روح بن زنباع للفسطاط فسطاطين وللغلام غلامين، ولا يكسرني فيما قدّمني له؟ فأخلف لروح بن زنباع ما ذهب له وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته.
قال أبو الحسن المدائني: كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبّار. فقال: كان الحجاج ابن يوسف يضع كل يوم ألف خوان «3» في رمضان وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على كل خوان عشرة أنفس، وعشرة ألوان، وسمكة مشوية طرية، وأرزة بسكر، وكان يحمل في محفّة «4» ويدار به على موائده يتفقدها، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر وسعى الخباز ليجيء بسكرها فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سكر، أمر به فضرب مائتي سوط؛ فكانوا بعد ذلك لا يمشون إلا متأبّطي خرائط السكر.
قال: وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يضع خمسمائة خوان، فكان طعام الحجاج لأهل الشام خاصة، وطعام يوسف بن عمر لمن حضره؛ فكان عند الناس أحمد.
العتبي قال: دخل على الحجاج سليك بن سلكة، فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك «5» ؛ فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة. فقال: قل. فقال: عصى عاص من عرض العشيرة، فحلّق عليّ اسمي «1» ، وهدمت داري؛ وحرمت عطائي. قال: هيهات، أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب «2»
ولربّ مأخوذ بذنب عشيره ... ونجا المقارف صاحب الذّنب «3»
قال: أصلح الله الأمير، إني سمعت الله قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ
«4» فقال الحجاج: عليّ بيزيد بن أبي مسلم. فأتى به، فمثل بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديا ينادي في الناس: صدق الله وكذب الشاعر:
أتي الحجاج بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دير الجماجم، فقال لحرسيّ قل لها:
يا عدوّة الله، أين مال الله الذي جعلتيه تحت ذيلك؟ فقال: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلتيه تحت استك؟ فقال له: كذبت، ما هكذا قلت، أرسلها: فخلّى عنها.
الأصمعي قال: ماتت رققة يا لشّجي- والشّجي ربو من الأرض في بطن فلج «5» فشجى به الوادي فسمى شج- فقال الحجاج: إني أراهم قد تضرعوا إذ نزل بهم الموت، فاحفروا في مكانهم. فحفروا، فأمر الحجاج رجلا يقال له عضيدة يخفر البئر، فلما أنبطها «6» حمل منها قربتين إلى الحجاج بواسط، فلما قدم بهما عليه قال: يا عضيدة لقد تجاوزت مياها عذبا، أخسفت «1» أم أوشلت؟ قال: لا واحد منها، ولكن نبطا بين الماءين. قال: وكيف يكون قدره؟ قال: مرت بنا رفقة فيها خمسة وعشرون جملا، فرويت الإبل وأهلها. قال: أو للإبل حفرتها؟ إنما حفرتها للناس.
إن الإبل ضمر خسف «2» ، ما جشّمت تجشّمت.
بعث عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف واليا على العراق، وأمره أن يحشر الناس إلى المهلب في حرب الأزارقة، فلما أتى الكوفة صعد المنبر متلثما متنكبا قوسه، فجلس واضعا إبهامه على فيه، فنظر محمد بن عمير بن عطارد التميمي، فقال:
لعن الله هذا ولعن من أرسله إلينا؛ أرسل غلاما لا يستطيع أن ينطق عيّا، وأخذ حصاة بيده ليحصبه «3» بها، فقال له جليسه: لا تعجل حتى ننظر ما يصنع. فقام الحجاج فكشف لثامه عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «4»
صليب العود من سلفي نزار ... كنصل السيف وضّاح الجبين
أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّذني مداورة الشّئون «5»
أما والله إني لا أحمل الشر بثقله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله؛ أما والله إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وكأني أرى الدماء بين العمائم واللحى تترقوق:
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «6»
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم»
ألا وإنّ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كبّ «1» كنانته فعجم عيدانها، فوجدني أصلبها عودا، فوجّعني إليكم؛ فإنكم طالما سعيتم في الضلالة، وسننتم سنن البغي؛ أما والله لألحونّكم «2» لحو العصا، ولأعصبنكم عصب السّلمة «3» ، ولأقرعنّكم قرع المروة «4» ، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل؛ والله ما أخلق إلا فريت «5» ، ولا أعد إلا وفيت، ولا أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشّنان «6» .
إياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال وما تقول، وفيم أنتم ونحو هذا؛ ومن وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب ضربت عنقه.
ثم قال: يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم.
فلم يقل أحد شيئا، فقال الحجاج: اسكت يا غلام، هذا أدب ابن نهية؛ والله لأؤدّبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمنّ؛ اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين. فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام.
ثم نزل فأتاه عمير بن ضابيء فقال: أيها الأمير، إني شيخ كبير عليل، وهذا ابني أقوى على الغزو مني. قال: أجيزوا ابنه عنه؛ فإنّ الحدث «7» أحبّ إلينا من الشيخ.
فلما ولي الرجل قال له عنبسة بن سعيد: أيها الأمير، هذا الذي ركض «8» عثمان برجله وهو مقتول. فقال: ردّوا الشيخ. فردّوه، فقال: اضربوا عنقه! فقال فيه الشاعر:
تجهّز فإمّا أن تزور ابن ضابيء ... عميرا، وإمّا أن تزور المهلّبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا «1»
ثم قال: دلوني على رجل أوليه الشرطة. فقيل له: أيّ الرجال تريد؟ قال: أريد دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف «2» الخيانة، لا يحنق في الحق على حرّ أو حرّة، يهون عليه سبال «3» الأشراف في الشفاعة. فقيل: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي فأرسل إليه يستعمله، فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وولدك وحاشيتك. فقال الحجاج: يا غلام، ناد: من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت الذمّة منه. قال الشعبي: فو الله ما رأيت قط صاحب شرطة مثله، كان لا يحبس إلا في دين، وكان إذا أتي برجل نقب على قوم، وضع منقبته «4» في بطنه حتى تخرج من ظهره، وكان إذا أتي برجل نباش حفر له قبرا ودفنه فيه حيا، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحا قطع يده؛ فربما أقام أربعين يوما لا يؤتي إليه بأحد، فضم الحجاج إليه شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.
ولما قدم عبد الملك بن مروان المدينة نزل دار مروان، فمرّ الحجاج بخالد بن يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجاج سيف محلى وهو يخطر متبخترا في المسجد، فقال رجل من قريش لخالد: من هذا التختارة «5» ؟ فقال: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص! فسمعه الحجاج: فمال إليه فقال: قلت: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرّني أنّ العاص ولدني ولا ولدته ولكن إن شئت أخبرتك من أنا: أنا ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل «6» من قريش، والذي ضرب مائة بسيفه هذا كلهم يشهدون على أبيك بالكفر وشرب الخمر حتى أقرّوا أنه خليفة. ثم ولّى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص.
الأصمعي قال: بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إنّ الحسن بن عليّ، ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ والله لتأتينّي بالمخرج أو لأضربن عنقك! فقال له: فإن أتيت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال له: اقرأ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى
«1» فمن أقرب، عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابن ابنته، أو الحسن إلى محمد؟ قال الحجاج: فو الله لكأني ما قرأت هذه الآية قط! وولاه قضاء بلده، فلم يزل بها قاضيا حتى مات.
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبد الملك بن مروان سنان «2» قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها قبل أن يستخلف ورعا وزهدا؛ فجلس يوما في خاصّته فقبض على لحيته فشمّها مليّا، ثم اجترّ «3» نفسه، ونفخ نفخة أطالها، ثم نظر في وجوه القوم فقال: ما أقول يوم ذي المسألة عن ابن أمّ الحجاج، وأدحض المحتج على العليم بما طوته الحجب؟ أما إنّ تمليكي له قرن بي لوعة يحشها «4» التذكار! كيف وقد علمت فتعاميت، وسمعت فتصاممت، وحمله الكرام الكاتبون! والله لكأني إلف ذي الضّغن على نفسي، وقد نعت الأيام بتصرّفها أنفسا حقّ لها الوعيد بتصرّم الدّول، وما أبقت الشبهة للباقي متعلّقا، وما هو إلا الغل «5» الكامن من النفس بحوبائها «6» ، والغيظ المندمل؛ اللهم أنت لي أوسع، غير منتصر ولا معتذر. يا كاتب، هات الدواة والقرطاس. فقعد كاتبه بين يديه وأملى عليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله، عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أمّا بعد، فقد أصبحت بأمرك برما «1» ، يقعدني الإشفاق، ويقيمني الرجاء، وإذا عجزت في دار السعة وتوسّط الملك وحين المهل واجتماع الفكر أن ألتمس العذر في أمرك؛ فأنا لعمر الله في دار الجزاء وعدم السلطان واشتغال الحامّة «2» والركون إلى الذلة من نفسي والتوقع لما طويت عليه الصحف أعجز؛ وقد كنت أشركتك فيما طوّقني الله عز وجل حمله ولاث «3» بحقوى من أمانته في هذا الخلق المرعيّ، فدللت منك على الحزم والجدّ في إماتة بدعة وإنعاش سنة، فقعدت عن تلك ونهضت بما عاندها، حتى صرت حجة الغائب، وعذر اللاعن والشاهد القائم.
فلعن الله أبا عقيل وما نجل «4» ، فألأم والد وأخبث نسل، فلعمري ما ظلمكم الزمان، ولا قعدت بكم المراتب، فقد ألبستكم ملبسكم، وأقعدتكم على روابي خططكم، وأحلّتكم أعلى منعتكم، فمن حافر وناقل وماتح «5» للقلب المقعدة في القيافي المتهفيهقة «6» ، ما تقدّم فيكم الإسلام ولقد تأخرتم، وما الطائف منا ببعيد يجهل أهله؛ ثم قمت بنفسك، وطمحت بهمّتك، وسرّك انتضاء سيفك، فاستخرجك أمير المؤمنين من أعوان روح بن زنباع وشرطته، وأنت على معاونته يومئذ محسود، فهفا «7» أمير المؤمنين والله يصلح بالتوبة والغفران زلّته، وكأني بك وكأن ما لو لم يكن لكان خيرا مما كان؛ كلّ ذلك من تجاسرك وتحاملك على المخالفة لرأي أمير المؤمنين، فصدعت صفاتنا، وهتكت حجبنا، وبسطت يديك تحفن «8» بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة والأرحام الواشجة، في أوعية ثقيف؛ فاستغفر الله لذنب ماله عذر، فلئن استقال أمير المؤمنين فيك الرأي، فلقد جالت البصيرة في ثقيف بصالح النبيّ صلّى الله عليه وسلم، إذ ائتمنه على الصدقات وكان عبده، فهرب بها عنه، وما هو إلا اختيار للثقة، والمطّلب لمواضع الكفاية: فقعد فيه الرجاء كما قعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له، فكأنّ هذا ألبس أمير المؤمنين ثوب العزاء، ونهض بعذره إلى استنشاق نسيم الرّوح؛ فاعتزل عمل أمير المؤمنين واظعن عنه باللعنة اللازمة، والعقوبة الناهكة إن شاء الله، إذ استحكم لأمير المؤمنين ما يحاول من رأيه، والسلام.
ودعا عبد الملك مولى له يقال له نباتة، له لسان وفضل رأي، فناوله الكتاب، ثم قال له: يا نباتة، العجل ثم العجل، حتى تأتي العراق، فضع هذا الكتاب في يد الحجاج، وترقب ما يكون منه، فإذا أجبل «1» عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهدّن «2» الناس حتى يأتيهم أمري، بما تصفني به في حين انقلاعك، من حبّي لهم السلامة؛ وإن هش للجواب ولم تكتنفه أربة «3» الحيرة، فخذ منه ما يجيب به وأقرره على عمله، ثم اعجل علي بجوابه.
قال نباتة: فخرجت قاصدا إلى العراق، فضمتني الصحارى والفيافي، واحتواني القرّ، وأخذ مني السفر، حتى وصلت؛ فلما وردته أدخلت عليه في يوم ما يحضره فيه الملأ، وعلى شحوب مضنى، وقد توسط خدمه من نواحيه وتدثر بمطرف خز ادكن»
، ولاث به الناس من بين قائم وقاعد؛ فلما نظر إليّ- وكان لي عارفا- قعد، ثم تبسّم تبسّم الوجل، ثم قال: أهلا بك يا نباتة، أهلا بمولى أمير المؤمنين لقد أثّر فيك سفرك، وأعرف أمير المؤمنين بك ضنينا، فليت شعري ما دهمك أو دهمني عنده؟ قال: فسلّمت وقعدت، فسأل: ما حال أمير المؤمنين وخوله؟ ... فلما هدأ أخرجت له الكتاب فناولته إياه، فأخذه مني مسرعا ويده ترعد، ثم نظر في وجوه الناس فما شعرت إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كل من يطيف به من خدمه يلقاه جانبا، لا يسمعون منا الصوت؛ ففك الكتاب فقرأه، وجعل يتثاءب ويردد تثاؤبه، ويسيل العرق على جبينه وصدغيه- على شدة البرد- من تحت قلنسوته من شدة الفرق «1» ، وعلى رأسه عمامة خزّ خضراء، وجعل يشخص إليّ ببصره ساعة كالمتوهم، ثم يعود إلى قراءة الكتاب ويلاحظني النظر كالمتفهّم، إلا أنه واجم «2» ؛ ثم يعاود الكتاب، وإني لأقول: ما أراه يثبت حروفه؛ من شدة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته؛ ثم مالت يده حتى وقع الكتاب على الفراش، ورجع إليه ذهنه، فمسح العرق عن جبينه ثم قال متمثلا:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع «3»
ثم قال: قبح والله منا الحسن يا نباتة، وتواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن، وما هذا إلا سانح فكرة نمقها مرصد يكلب بقصتنا، مع حسن رأي أمير المؤمنين فينا.
يا غلام! فتبادر الغلمان الصيحة، فملىء علينا منهم المجلس، حتى دفأتني «4» منهم الأنفاس، فقال: الدواة والقرطاس. فأتي بداوة وقرطاس، فكتب بيده، وما رفع القلم مستمدا حتى سطر مثل خد الفرس، فلما فرغ قال لي يا نباتة، هل علمت ما جئت به فنسمعك ما كتبنا؟ قلت: لا. قال: إذا حسبك منا مثله. ثم ناولني الجواب، وأمر لي بجائزة فأجزل، وجرّد لي كساء ودعا لي بطعام فأكلت ثم قال: نكلك «5» إلى ما أمرت به من عجلة أو توان، وإني لأحب مقارنتك والأنس برؤيتك. فقلت: كان معي قفل مفتاحه عندك، ومفتاح قفلك عندي، فأحدثت لك العافية بأمرين: فاقفلت المكروه وفتحت العافية، وما ساءني ذلك وما أحب أن أزيدك بيانا، وحسبك من استعجال القيام.
ثم نهضت وقام مودعا لي، فالتزمني وقال: بأبي أنت وأمي، رب لفظة مسموعة ومحتقر نافع؛ فكن كما أظن.
فخرجت مستقبلا وجهي حتى وردت أمير المؤمنين، فوجدته منصرفا من صلاة العصر، فلما رآني قال: ما احتواك المضجع يا نباتة! فقلت: من خاف من وجه الصباح أدلج «1» . فسلمت وانتبذت عنه فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال: مهيم «2» .
فدفعت إليه الكتاب فقرأه متبسما، فلما مضى فيه ضحك حتى بدت له سنّ سوداء ثم استقصاه فانصرف إليّ فقال: كيف رأيت إشفاقه؟ قال: فقصصت عليه ما رأيت منه فقال: صلوات الله على الصادق الأمين: إن من البيان لسحرا. ثم قذف الكتاب إليّ فقال: اقرأ. فقرأته فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، المؤيّد بالولاية، المعصوم من خطل القول وزلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذوي أمره؛ من عبد اكتنفته الزّلة «3» ، ومدّ به الصّغار «4» إلى وخيم المرتع، ووبيل المكرع «5» ، من جليل فادح ومعتد قادح؛ والسلام عليك ورحمة الله التي اتسعت فوسعت، وكان بها إلى أهل التقوى عائدا؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجيا لعطفك بعطفه.
أما بعد، كان الله لك بالدّعة في دار الزوال، والأمن في دار الزلزال، فإنه من عنيت به فكرتك يا أمير المؤمنين مخصوصا، فما هو إلا سعيد يؤثر، أو شقي يوتر «6» ؛ وقد حجبني عن نواظر السعد لسان مرصد ونافس حقد، انتهز به الشيطان حين الفكرة، فافتتح به أبواب الوسواس بما تحنق به الصدور؛ فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رجيم إنما سلطانه على الذين يتولونه، واعتصاما بالتوكل على من خصه بما أجزل له من قسم الإيمان وصادق السنة، فقد أراد اللعين أن يفتق لأوليائه فتقا نبا عنه كيده، وكثر عليه تحسره، بلية قرع بها فكر أمير المؤمنين ملبسا وكادحا ومؤرّشا «1» ، ليفلّ من عزمه الذي نصبني، ويصيب تأرا لم يزل به موتورا، وذكر قديم ما منى به الأوائل حتى لحقت بمثله منهم وما كنت أبلوه من خسة أقدار، ومزاولة أعمال، إلى أن وصلت ذلك بالتشرّط لروح بن زنباع. وقد علم أمير المؤمنين بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي، بأن الذي غيّر به القوم من مصانعهم من أشد ما كان يزاوله أهل القدمة «2» الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتعضوا من ذكر ما كان، وارتفعوا بما يكون، وما جهل أمير المؤمنين- للبيان موقعه، غير محتج ولا متعدّ- أن متابعة روح بن زنباع طريق الوسيلة لمن أراد من فوقه، وأن روحا لم يلبسني العزم الذي به رفعني أمير المؤمنين عن خوله؛ وقد ألصقتني بروح بن زنباع همة لم تزل نواظرها ترمي بي البعيد، وتطالع الأعلام. وقد أخذت من أمير المؤمنين نصيبا اقتسمه الإشفاق من سخطته والمواظبة على موافقته، فما بقي لنا بعد إلا صبابة إرث، به تجول النفس وتطرف النواظر، ولقد سرت بعين أمير المؤمنين سير المثبّط لمن يتلوه، المتطاول لمن تقدمه، غير مبتّ «3» موجف، ولا متثاقل مجحف؛ ففتّ الطالب، ولحقت الهارب، حتى سادت السنّة، وبادت البدعة، وخشىء الشيطان، وحملت الأديان إلى الجادة العظمى والطريقة المثلى؛ فها أنا ذا يا أمير المؤمنين، نصب المسألة لمن رامني، وقد عقدت الحبوة «4» ، وقرنت الوظيفتين لقائل محتج، أو لائم ملتجّ؛ وأمير المؤمنين ولي المظلوم، ومعقل الخائف؛ وستظهر له المحنة نبأ أمري؛ ولكل نبإ مستقر؛ وما حفنت «5» يا أمير المؤمنين في أوعية ثقيف حتى روي الظمآن، وبطن الغرثان «6» ، وغصّت الأوعية، وانقدّت «7» الأوكية «8» في آل مروان، فأخذت ثقيف فضلا صار لها، لولاهم للقطته السابلة «1» ؛ ولقد كان ما أنكره أمير المؤمنين من تحاملي، وكان ما لو لم يكن لعظم الخطب فوق ما كان؛ وإن أمير المؤمنين لرابع أربعة: أحدهم ابنة شعيب النبي صلّى الله عليه وسلم؛ إذ رمت بالظن غرض اليقين تفرّسا في النجيّ المصطفى بالرسالة، فحقّ لها فيه الرجاء، وزالت شبهة الشك بالاختبار؛ وقبلها العزيز في يوسف؛ ثم الصدّيق في الفاروق، رحمة الله عليهما؛ وأمير المؤمنين في الحجاج. وما حسد الشيطان يا أمير المؤمنين خاملا، ولا شرق «2» بغير شجى؛ فكم غبطة يا أمير المؤمنين للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلت حيلته، ووهن كيده يوم كيت وكيت؛ ولا أظن أذكر لها من أمير المؤمنين. ولقد سمعت لأمير المؤمنين في صالح- صلوات الله عليه- وفي ثقيف مقالا، هجم بي الرجاء لعذله عليه بالحجة في ردّه، بمحكم التنزيل في لسان ابن عمه خاتم النبيين وسيد المرسلين؛ صلّى الله عليه وسلم. فقد أخبر عن الله عز وجل؛ وحكاية غرّ الملأ من قريش عند الاختيار والافتخار، وقد نفخ الشيطان في مناخرهم، فلم يدعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى، فقالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
«3» . فوقع اختيارهم- عند المباهاة بنفخة الكفر، وكبر الجاهلية، على الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي مسعود الثقفي؛ فصارا في الافتخار بهما صنوين، ما أنكر اجتماعهما من الأمة منكر في خبر القرآن ومبلّغ الوحي، وإن كان ليقال للوليد في الأمة يومئذ:
ريحانة قريش؛ وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرحمة الشاملة في القسم السابق، فقال عز وجل: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
«4» . وما قدمتني يا أمير المؤمنين ثقيف في الاحتجاج لها، وإن لها مقالا رحبا، ومعاندة قديمة؛ إلا أن هذا من أيسر ما يحتج به العبد المشفق على سيده المغضب، والأمر إلى أمير المؤمنين، عزل أم أقرّ، وكلاهما عدل متبع، وصواب معتقد. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله. 
قال نباتة: فأتيت على الكتاب بمحضر أمير المؤمنين عبد الملك، فلما استوعبته سارقته النظر على الهيبة منه، فصادف لحظي لحظه، فقال: اقطعه ولا تعلمنّ بما كان أحدا. فلما مات عبد الملك فشا عني الخبر بعد موته.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید