المنشورات

الحجاج والشعبي:

قال الشعبي: أتي بي الحجاج موثقا، فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه، فقال: إنا لله يا شعبيّ لما بين دفتيك من العلم، وليس اليوم بيوم شفاعة! قلت له: فما المخرج؟ قال: بؤ «4» للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، وبالحرى أن تنجو. ثم لقبني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد: فلما دخلت على الحجاج قال لي: وأنت يا شعبي فيمن خرج عليا وكفر؟ قلت: أصلح الله الأمير، نبا «5» بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب «6» ، واستحلسنا «7» الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء! قال: صدق والله، ما برّوا بخروجهم علينا، ولا قووا؛ أطلقوا عنه. فاحتاج إليّ في فريضة بعد ذلك، فأرسل إليّ فقال: ما تقول في أم وأخت وجد؟ فقلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود، وعليّ، وعثمان وزيد، وابن عباس. قال: فما قال فيها ابن عباس، إن كان لمنقبا «1» . قلت: جعل الجد أبا ولم يعط الأخت شيئا، وأعطى الأمّ الثلث. قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قلت جعلها من ستة، فأعطى الجدّ ثلاثة، وأعطى الأمّ اثنين، وأعطى الأخت سهما. قال: فما قال زيد؟ قلت: جعلها من تسعة، فأعطى الأمّ ثلاثة، وأعطى الجدّ أربعة، وأعطى الأخت اثنين؛ فجعل الجد معها أخا. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثا. قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الأخت ثلاثة، وأعطى الأم اثنين وأعطى الجد سهما، قال: مر القاضي فليمضها على ما أمضاها أمير المؤمنين.
... فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجب فقال له: إن بالباب رسلا. فقال: إيذن لهم.
قال: فدخلوا، وعمائمهم على أوساطهم، وسيوفهم على عواتقهم، وكتبهم بأيمانهم، وجاء رجل من بني سليم يقال له شبابة بن عاصم، فقال له: من أين؟ قال: من الشام، قال:
كيف تركت أمير المؤمنين؟ وكيف تركت حشمه؟ فأخبره، قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، أصابتني فيما بيني وبين الأمير ثلاث سحائب. قال: فانعت لي، كيف كان وقع المطر وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوّارين «2» ، فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكانت الصغار لحمة للكبار؛ ووقع نشيطا ومتداركا، وهو السّيح «3» الذي سمعت به، فواد سائل، وواد نازح؛ وأرض مقبلة، وأرض مدبرة. وأصابتني سحابة بسراء «4» فلبّدت الدّماث «5» ، وأسالت العزاز «6» ، وأدحضت التلاع، وصدعت عن الكمأة أماكنها؛ وأصابتني سحابة بالقريتين. فقاءت الأرض بعد الريّ، وامتلأت الأخاديد «1» ، وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل وجار «2» الضبع.
ثم قال: إيذن. فدخل رجل من بني أسد، فقال: هل وراءك من غيث؟ قال: لا، كثر والله الإعصار، وأغبرت البلاد، وأيقنّا أنه عام سنة «3» . قال: بئس المخبر أنت.
قال: أخبرتك الذي كان.
ثم قال: إيذن. فدخل رجل من أهل اليمامة، قال: هل وراءك من غيث؟ قال:
نعم، سمعت الروّاد يدعون إلى الماء، وسمعت قائل يقول: هلم ظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النيران، وتشتكي فيها النساء، وتنافش فيها المعزى. قال الشعبي: فلم يدر الحجاج ما قال، فقال له: تبّا لك. إنما تحدّث أهل الشام فأفهمهم. قال: أصلح الله الأمير، أخصب الناس، فكثر التمر والسمن والزبد واللبن، فلا توقد نار يختبز بها؛ وأمّا تشكى النساء، فإنّ المرأة تظل تربق «4» بهمها، وتمخض لبنها، فتبيت: ولها أنين من عضدها وأمّا تنافش «5» المعزى، فإنها ترى من أنواع التّمر وأنواع الشجر ونور النبات، ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها، فتبيت وقد امتلأت أكراشها، ولها من الكظة «6» جرّة، فتبقى الجرّة حتى تستنزل الدرّة.
ثم قال: إيذن. فدخل رجل من الموالي كان من أشدّ الناس في ذلك الزمان، فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، ولكني لا أحسن أن أقول ما يقول هؤلاء.
قال: فما تحسن؟ قال: أصابتني سحابة بحلوان، فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلت عليك. فقال: لئن كنت أقصرهم في المطر خطبة، إنك لأطولهم بالسيف خطوة.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید