المنشورات

عبد الملك والحجاج وأنس:

إبراهيم بن مرزوق قال: حدّثني سعيد بن جويرية قال: خرجت خارجة على الحجاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك يخرج معه، فأبى، فكتب إليه يشتمه، فكتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان يشكوه وأدرج كتاب الحجاج في جوف كتابه.
قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر: بعث إليّ عبد الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعث إليّ في مثلها، فدخلت عليه وهو أشدّ ما كان حنقا وغيظا، فقال: يا إسماعيل: ما أشدّ عليّ أن تقول الرعية: ضعف أمير المؤمنين، وضاق ذرعه في رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم! لا يقبل له حسنة، ولا يتجاوز له عن سيئة، فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين قال أنس بن مالك: خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كتب إليّ يذكر أنّ الحجاج قد أضرّ به أو أساء جواره. وقد كتبت في ذلك كتابين، كتابا إلى أنس بن مالك، والآخر إلى الحجاج؛ فاقبضهما ثم اخرج على البريد فإذا وردت العراق فابدأ بأنس بن مالك فادفع له كتابي، وقل له: اشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتي إليك أمر تكرهه إن شاء الله، ثم ائت الحجاج فادفع إليه كتابه، وقل له: قد اغتررت بأمير المؤمنين غرّة «1» لا أظنه يخطئك شرّها. ثم افهم ما يتكلم به وما يكون منه، حتى تفمني إياه إذا قدمت عليّ إن شاء الله.
قال إسماعيل: فقبضت الكتابين وخرجت على البريد، حتى قدمت العراق فبدأت بأنس بن مالك في منزله، فدفعت إليه كتاب أمير المؤمنين، وأبلغته رسالته؛ فدعا له وجزاه خيرا؛ فلما فرغ من قراءة الكتاب قلت له: أبا حمزة، إنّ الحجاج عامل، ولو وضع لك في جامعة «2» لقدر أن يضرك وينفعك؛ فأنا أريد أن تصالحه. قال: ذلك إليك، لا أخرج عن رأيك. ثم أتيت الحجاج؛ فلما رآني رحب وقال: والله لقد كنت أحبّ أن أراك في بلدي هذا! قلت: وأنا والله قد كنت أحب أن أراك وأقدم عليك بغير الذي أرسلت به إليك! قال: وما ذاك؟ قلت: فارقت الخليفة وهو أغضب الناس عليك! قال: ولم؟ قال: فدفعت إليه الكتاب، فجعل يقرؤه وجبينه يعرق فيمسحه بيمينه، ثم قال: اركب بنا إلى أنس بن مالك. قلت له: لا تفعل، فإني سأتلطف به حتى يكون هو الذي يأتيك- وذلك للذي أشرت عليه من مصالحته- قال: فألقى كتاب أمير المؤمنين، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أمّا بعد فإنك عبد طمت «3» بك الأمور فطغيت، وعلوت فيها حتى جزت قدرك، وعدوت طورك، وايم الله يا بن المستفرمة «4» بعجم زبيب الطائف، لأغمزنّك «5»
كبعض غمزات الليوث للثعالب، ولأركضنّك ركضة تدخل منها في وجعاء»
أمك؛ اذكر مكاسب آبائك بالطائف، إذ كانوا ينقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار في المناهل بأيديهم؛ فقد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم والضراعة؛ وقد بلغ أمير المؤمنين استطالة منك على أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، جرأة منك على أمير المؤمنين، وغرّة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محبته، ونزل عند سخطته، وأظنك أردت أن تروزه «2» بها لتعلم ما عنده من التغيير والتنكير فيها، فإن سوّغتها مضيت قدما، وإن بغّضتها وليت دبرا. فعليك لعنة الله من عبد أخفس «3» العينين؛ أصلك «4» الرجلين؛ ممسوح الجاعرتين «5» ، وايم الله لو أن أمير المؤمنين علم أنك اجترمت منه جرما وانتهكت له عرضا فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك من يسبحك ظهرا لبطن حتى ينتهي بك إلى أنس بن مالك، فيحكم فيك بما أحب، ولن يخفى على أمير المؤمنين نبؤك «6» ، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.
قال إسمعيل: فانطلقت إلى أنس فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج؛ فلما دخلنا عليه قال: يغفر الله لك أبا حمزة: عجلت بالأئمة، وأغضبت علينا أمير المؤمنين. ثم أخذ بيده فأجلسه معه على السرير، فقال: أنس: إنك كنت تزعم أنا الأشرار! والله سمّانا الأناصر، وقلت: إنا من أبخل الناس! ونحن الذين قال الله فيهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ
«7» وزعمت أنّا أهل نفاق! والله تعالى يقول فينا: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا
«8» فكان المفزع والمشتكى في ذلك إلى الله وإلى أمير المؤمنين، فتولى من ذلك ما ولاه الله، وعرف من حقنا ما جهلت، وحفظ منا ما ضيّعت؛ وسيحكم في ذلك ربّ هو أرضى للمرضى، وأسخط للمسخط، وأقدر على المغير، في يوم لا يشوب الحقّ عنده الباطل، ولا النور الظلمة، ولا الهدى الضلالة؛ والله لولا أن اليهود أو النصارى رأت من خدم موسى بن عمران أو عيسى ابن مريم يوما واحدا لرأت له ما لم تروا لي في خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين.
قال: فاعتذر إليه الحجاج وترضاه حتى قبل عذره ورضي عنه، وكتب برضاه وقبوله عذره، ولم يزل الحجاج له معظّما هائبا له حتى هلك، رضي الله عنه.
وكتب الحجاج إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: أصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه، وسهل حظه وحاطه ولا أعدمناه، فإن إسماعيل بن أبي المهاجر رسول أمير المؤمنين- أعز الله نصره- قدم عليّ بكتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءه، يذكر شتيمتي وتوبيخي بآبائي، وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من عند أمير المؤمنين، أتم الله نعمته عليه، وإحسانه إليه، ويذكر أمير المؤمنين، جعلني الله فداه، استطالة مني على أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، جرأة على أمير المؤمنين، وغرة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محبنه ونزل عند سخطته وأمير المؤمنين- أصلحه الله- في قرابته من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إمام الهدى وخاتم الأنبياء- أحق من أقال عثرتي وعفا عن ذنبي، فأمهلني ولم يعجلني عند هفوتي للذي جبل عليه من كريم طبائعه، وما قلده الله من أمور عباده؛ فرأى أمير المؤمنين- أصلحه الله- في تسكين ورعيّ وإفراح كربتي، فقد ملئت رعبا وفرقا من سطوته، وفجاءة نقمته، وأمير المؤمنين- أقاله «1» الله العثرات،وتجاوز له [عن] السيئات، وضاعف له الحسنات، وأعلى له الدرجات- أحق من صفح وعفا، وتغمد «1» وأبقى، ولم يشمت بي عدوا مكبا «2» ولا حسودا مضبا «3» ، ولم يجرّعني غصصا؛ والذي وصف أمير المؤمنين من صنيعته إلي، وتنويهه لي بما أسند إلي من عمله، وأوطاني من رقاب رعيته، فصادق فيه، مجزى بالشكر عليه، والتوسل مني إليه بالولاية والتقرب له بالكفاية.
وقد عاين إسماعيل بن أبي المهاجر رسول أمير المؤمنين وحامل كتابه نزولي عند مسرة أنس بن مالك، وخضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقه إياي، ودخوله علي بالمصيبة، على ما سيعلمه أمير المؤمنين وينهيه إليه؛ فإن أرى أمير المؤمنين- طوّقني الله شكره، وأعانني على تأدية حقه، وبلّغني إلى ما فيه موافقة مرضاته ومدّ لي في أجله- أمر لي بكتاب من رضاه وسلامة صدره، يؤمّنني به من سفك دمي، ويردّ ما شرد من نومي، ويطمئن به قلبي، [فعل] ؛ فقد ورد عليّ أمر جليل خطبه، عظيم أمره شديد عليّ كربه، أسأل الله أن لا يسخط أمير المؤمنين [علي] ، وأن يبتليه في حزمه وعزمه، وسياسته وفراسته، ومواليه وحشمه، وعماله وصنائعه، ما يحمد به حسن رأيه، وبعد همته، إنه ولي أمير المؤمنين والذابّ عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام.
فحدث إسماعيل أنه لما قرأ أمير المؤمنين الكتاب، قال: يا كاتب، أفرخ «4» روع أبي محمد. فكتب إليه بالرضا عنه.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید